الاثنين 20 أكتوبر 2025 م - 27 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

الخرف: بين قسوة الواقع والأمل!

الخرف: بين قسوة الواقع والأمل!
الاثنين - 20 أكتوبر 2025 11:53 ص

د. يوسف بن علي الملَّا

10

من بَيْنِ الحالات المختلفة الَّتي تمرُّ علينا في العقد الأخير، لا يزال الخرف ـ إلى جانب مرض الزهايمر وغيره من الاضطرابات المرتبطة ـ من أكثر الحالات تعقيدًا وإضعافًا لكبار السِّن. فهو ـ بلا شك ـ يؤثِّر على الذَّاكرة والتفكير والشخصيَّة، مسبِّبًا تغيُّرات وظيفيَّة وعصبيَّة نفسيَّة عميقة. وكثيرًا ما نسمع دائمًا كيف يوصف الخرف ولا يزال، بعبارات سلبيَّة بشكلٍ شِبه حصري بالقول بأنَّها تمحو الذَّات وتقديرها والاستقلاليَّة تدريجيًّا! ولا شك أنَّ هذا التوصيف الأحادي قد أثَّر على العائلات واستجابة المُجتمع، ومع ذلك هنالك توجُّه في نظام الرعاية الصحيَّة في عدد كبير من دول العالم. ومن خلال التركيز على تدهور الحالة، لِلفَهْمِ الحقيقي والعلمي للخرف ونماذج الرعاية، ومعه وبشكلٍ ما ستتحسن أُطر العلاج والتعايش مع الخرف. وهنا يَجِبُ أن نعيَ بأنَّ الخرف هو اضطراب تدريجي في وظائف الدماغ يؤدي إلى تدهور في الذاكرة والقدرة على التفكير وحتَّى التواصل، واتِّخاذ القرارات. ولِكَيْ أكُونَ واضحًا، فالخرف لا يُعَد مرضًا واحدًا، بل هو مجموعة من الأعراض تنتج عن أمراض مختلفة تصيب الدماغ، أبرزها مرض الزهايمر.

للأسف ولسنوات، اعتبرت المُجتمعات الخرف بأنَّه انحدار عصبي ونفسي لا رجعة فيه نَحْوَ الظلام. وكأنَّ المرضى ـ إن استطعت القول ـ تاهوا بالفعل قبل سنوات من وفاتهم، محبوسين في عزلة. مع ذلك أثبتت التطورات في عِلم الأعصاب والتشخيص والرعاية المركَّزة على ذلك الفرد، أنَّه لا يزال من الممكن الحفاظ على جودة حياته مع تدهور التفكير. فلا ينبع الأمل الآن من رفض الاعتراف بذلك التدهور، بل من إدراك أنَّ الكرامة والحُب والتواصل العاطفي يُمكِن أن توجدَ خارج الذاكرة!

ومن هنا خرجت دراسة حديثة في هذا العام ٢٠٢٥ ميلاديّ، ذكرتْ أنَّه عندما جرَّب كبار السِّن المعرَّضون للخرف مزيجًا من الأشياء مثل ممارسة الرياضة واتباع نظام غذائي خاص وألعاب الدماغ وفحوصات القلب، تحسَّنت وظائف أدمغتهم بشكلٍ عام مقارنةً بِمَن اعتنوا بأنفسهم فقط. وقالت الدراسة إنَّ نمط الحياة والاختلاط بالناس والنشاط البدني أمور مهمَّة للحفاظ على صحَّة دماغك. بل إنَّ تقرير أحد المعاهد المعني بالشيخوخة أظهر أنَّ هنالك خطوات جيِّدة إلى الأمام في اكتشاف الاضطراب مبكرًا باستخدام المؤشرات الحيويَّة واستخدام الذكاء الاصطناعي لاختبار الدماغ، ممَّا يعني أنَّنا نتحرك نَحْوَ التنبُّؤ بالمشكلات ومنعها بدلًا من رد الفعل عندما يكُونُ الأوان قد فات.

بطبيعة الحال، لا يزال الخرف يُشكِّل عبئًا على بعض الأُسر. كيف لا؟ وقد تكُونُ أمور كالانفعال والعدوانيَّة والارتباك عبئًا ثقيلًا حتَّى على أكثر الأشخاص صبرًا في رعاية شخص ما. ولكن، لمجرَّد أنَّ هذه الأمور حقيقيَّة، لا يعني أن نفقد الأمل. بل في الواقع، إنَّها تجعل الأمل أكثر أهميَّة، فإذا كنَّا إيجابيين ونعرف أيضًا ما هو حقيقي بناء على ما يقوله الأطباء ومدى قوَّة الناس وتلاحمها، يُمكِن للعائلات التركيز على ما تبقَّى لدَيْهم بدلًا من التركيز فقط على ما فقَدُوه. وعليه ومن هنا، يُمكِن للكشف المبكر، والعيادات متعدِّدة التخصُّصات، وتثقيف مقدمي الرعاية أن يسدَّ الفجوة بَيْنَ التقدم العلمي والخبرة العمليَّة. وبالتأكيد ينبغي على صانعي السياسات الصحيَّة الاستثمار في برامج مُجتمعيَّة صديقة للخرف، تدعم الشيخوخة في أماكنها، وتحدّ من الوصمة المرتبطة بها من خلال التوعية والإدماج.

ختامًا، كان رجُل مسنٌّ يجلس مع زوجته كُلَّ صباح في مزرعتهما الصغيرة ـ للأسف ـ لم تَعُدْ تتذكر اسمه، ولا أنَّهما قد بنيا حياة معًا يومًا ما. فسأله أحد الأقارب عن سبب بقائه يوميًّا معها وهي لم تَعُدْ تعرفه. ابتسم وقال: قد لا تتذكرني، لكنَّني ما زلتُ أتذكرها! حقيقة، في تلك اللحظة الهادئة يكمن جوهر رعاية مرضى الخرف، فهو حُب يتجاوز الذاكرة، وحضور يدوم حتَّى بعد التعرف، وخُلق إنساني يدوم حتَّى في النسيان. ومهما يكُنْ يواصل العِلم المرتبط بالزهايمر والخرف تطوُّره، لكنَّ جوهره يبقى خالدًا، فعندما نتذكر مَن نَسِي، لا نحافظ على كرامتهم فحسب، بل على روح دِيننا الإنساني وخُلقنا أيضًا.

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]