يقول الأديب السوداني الكبير الطيب صالح في أحد مقالاته الَّتي نشرها قبل وفاته، بعنوان (من أين جاء هؤلاء؟!)، «الخرطوم الجميلة مثل طفلة ينومونها عنوة ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات، لا أضواء في نوافذ البيوت، لا فرح في القلوب، لا ضحك في الحناجر، لا ماء، لا خبز، لا سكر، لا بنزين، لا دواء، الأمن مستتب، كما يهدأ الموتى». وتساءل صالح في نهاية مقاله مهاجمًا القائمين على السُّلطة في السودان: من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأُمَّهات والعمَّات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهب من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟.. ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذا لماذا يحبونه وكأنَّهم يكرهونه؟ ويعملون على إعماره، وكأنَّهم مسخرون لخرابه. تذكرتُ هذه الكلمات، عندما أرسل لي صديقي السوداني، مقطع فيديو لسفير سوداني يلوم العرب على تركهم السودان يواجه مأساته وحيدًا، وتخليهم عنه في محنته، وهو البلد الَّذي طالما وقف مع أشقائه العرب في أزماتهم المختلفة، وأنحى باللائمة على مصر الجارة الكبرى، الَّتي كان للسودان مواقف مشهودة معها بعد نكسة يونيو1967م، عندما استضافت الخرطوم قمَّة اللاءات الثلاث، «لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بالعدوِّ الصهيوني»، قبل أن يعود الحق لأصحابه، كما استضافت الخرطوم مقر الكليَّة الحربيَّة والمقاتلات المصريَّة لحمايتها من الغارات «الإسرائيليَّة»، قبل تشييد حائط الصواريخ، كما شاركت كتائب من القوَّات المُسلَّحة السودانيَّة في حرب أكتوبر، كما ذكر دَوْر السودان في مساعدة ليبيا، ووقوفها مع دول الخليج في مواجهة الأخطار الأمنيَّة، وأخذ يعدد مواقف السودان المشرفة في مساندة جميع الدول العربيَّة في مواجهة الأزمات الَّتي مرَّت بها على مدار التاريخ. بصراحة، رغم اتفاقي مع كُلِّ ما ذكره السفير السوداني، وتعاطفي الشديد مع الشَّعب السوداني الشقيق فيما يمرُّ به من محنة شديدة، راح ضحيَّتها قرابة (50) ألف روح بريئة، وهجرت أكثر من (8) ملايين سوداني، ودمرت البلد، إلَّا أنَّ ردي كان قاسيًا على صديقي، وقلت له، قبل أن تلوم العرب على موقفهم السلبي من السودان، انظر كيف هان السودان على أبنائه، الَّذين رفعوا السلاح ليقتلوا بني جلدتهم، ويدمروا مقدرات بلدهم، ويشردوا أبناء شعبهم؟ ومع احترامي للشرعيَّة، والنظام الرسمي المعترف به عربيًّا ودوليًّا، ولكن القوَّة العسكريَّة وحدها لا تحسم النزاعات، خصوصًا أنَّه لم يقدر أحد طرفي النزاع على حسم المعركة عسكريًّا، فمنذ أبريل 2023، وحالة الكر والفر مستمرة بَيْنَ الفريقين، ولا يوجد نهاية للحرب، ورغم حساسيَّة الإخوة السودانيين، وعدم إلمامي بواقع الأمور على الأرض، ولكنِّي أتمنَّى الوصول لحل يوقف العنف، ويحقن الدماء، وهذا الحل لن يأتي إلَّا بالإنصات لصوت العقل، والجلوس لمائدة التفاوض، بوساطة عربيَّة مخلصة، وإرادة وطنيَّة، تغلب المصلحة العليا للسودان، على المكاسب السياسيَّة الضيقة. رُبَّما كان العدوان الصهيوني على غزَّة سببًا في انشغال الدول العربيَّة عن بذل الجهد اللازم لوقف الحرب في السودان، ولكن مؤخرًا سمعنا عن تحركات مصريَّة سعوديَّة حثيثة للوصول لحل يوقف الصراع في أسرع وقت، وفقًا لما صرح به وزير الخارجيَّة المصري، الَّذي أكد أنَّ هناك تنسيقًا مع الولايات المتحدة والإمارات، للتوصل لهدنة إنسانيَّة لوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات إلى مدينة الفاشر، ووقف تدفق السلاح من الخارج، وبدء عمليَّة سياسيَّة، تضع نهاية لهذه المأساة الَّتي يعيشها السودان.
محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري