الاثنين 20 أكتوبر 2025 م - 27 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

الإنسان فـي قلب القرار الوطني

الإنسان فـي قلب القرار الوطني
الاثنين - 20 أكتوبر 2025 11:42 ص

إبراهيم بدوي

10

في بدايات عصر النهضة المباركة حرص المغفور له بإذن الله تعالى السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ على جعل الإنسان هو الأداة والغاية، وعلى مرور خمسة عقود حققت سلطنة عُمان نقلة كبرى في ملفات بناء الإنسان، والتعليم والصحة والعمل، لتسير تلك الرؤية بالتوازي مع التوسع في البنية الأساسيَّة في كُلِّ المجالات، فبنيت النهضة العُمانيَّة المباركة على قواعد راسخة رآها القاصي والدَّاني، حتَّى تحوَّلت البلاد إلى نموذج تنموي يحتذى به في المنطقة، ونظرة سريعة إلى تلك الرؤية تكشف سر نجاحها؛ إذ جاءت متناسبة مع عصرها ومُقوِّماته، وتدرَّجت في البناء بالترتيب الصحيح، فبدأت من الإنسان لتصل إلى الدولة، ومن هذا الأساس واصل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ مسيرة البناء والتجديد، فحرص منذ توليه مقاليد الحكم على أن تكُونَ النهضة المتجددة امتدادًا لرؤية الماضي واستجابةً لتحدِّيات الحاضر. فقد جعل جلالته المواطن محور كُلِّ سياسة عامَّة وقرار وطني، وجعل بناء الإنسان أولويَّة تواكب العصر وأدواته، ومن وجهة نظري أرى هذا التحول عنوانًا للمرحلة الجديدة، فهو أكثر من تطوير إداري أو تحديث تشريعي؛ لأنَّه يُمثِّل انتقالًا في مستوى الوعي ذاته؛ وعي المواطن بِدَوْره في التنمية، ووعي الدولة بضرورة إشراكه في صناعة القرار، فكُلَّما ارتفع منسوب الوعي بَيْنَ الطرفين، زادت فعاليَّة القرار الوطني واتسعت دائرته لتشمل الجميع، فهذه المرحلة لا تقاس بعدد المشاريع أو القوانين، لكن في قدرتها على خلق مواطن يدرك موقعه في منظومة البناء.

إنَّ انطلاق الوعي الوطني أعاد تعريف موقع الإنسان داخل القرار، فالدولة تتعامل مع المواطن كمستفيد من نتائج السياسات، وكعنصر فاعل في صياغتها، والتحول الحقيقي يظهر حين تُبنى القرارات من احتياجات الناس لا من مكاتب التنفيذ، يتضح ذلك جليًّا في مشروع الهُوِيَّة الرقميَّة الَّذي وحَّد علاقة المواطن بمؤسَّسات الدولة وحرَّرها من البيروقراطيَّة، وفي الإعفاءات الاقتصاديَّة الَّتي فتحت المجال للمبادرة الفرديَّة والريادة الوطنيَّة، تلك الخطوات وما شابهها أعادت تشكيل فلسفة الإدارة، إذ أصبح الهدف من القرار أن يلمس حياة المواطن قبل أن يدونَ في النظام، ومن متابعتي لهذا المسار أرى أنَّ عُمان تدخل مرحلة جديدة من النضج المؤسَّسي، تقاس فيها فاعليَّة القرار بقدرته على تحسين حياة الناس وتعزيز شعورهم بالمشاركة، لا بكميَّة النصوص الَّتي تنظمه.

إنَّ التحول في فلسفة القرار لا يُقاس بعدد المشروعات أو حجم الإنفاق، وإنَّما بمدى حضوره في وعي الناس وتأثيره في تفاصيل حياتهم، جميل أن ترتفع المؤشرات وأن يضبط الإنفاق، والأجمل أن يشعر الإنسان بثمرة هذا الجهد في واقعه اليومي، فحين يدرك المواطن أنَّ القرار يعبِّر عنه ويستجيب لاحتياجاته، يتحول من متلق إلى مسهم في تحقيق أهدافه، هذا هو جوهر الإدارة الواعية الَّتي تجعل الإنسان مقياس النجاح قبل الأرقام. فالرؤية السامية الجديدة لنهضة متجددة تؤكد أنَّ التنمية الحقيقيَّة تبدأ عندما تصاغ السياسات بروح المشاركة لا بالأوامر، وفي مسارات التعليم المهني وريادة الأعمال تجسَّدت هذه الفلسفة بوضوح، إذ منحت الشباب مساحة لتشكيل مستقبلهم بثقة، ورسَّخت فكرة أنَّ العمل المنتج هو تعبير عن الانتماء قبل أن يكُونَ وسيلة للعيش، إنَّه نهج جديد يبني الوعي الجمعي والفردي، ليخلق وعيًا وطنيًّا يحقق المستقبل المنشود، ويفتح آفاقًا أوسع وأرحب.

إنَّه حرص من عاهل البلاد المُفدَّى ـ أبقاه الله ـ على أن تكُونَ نهضة عُمان المتجددة مواكبة لعصرها ومتكاملة في رؤيتها، حرص تجلَّى في المشاركة الشَّعبيَّة الواسعة في صياغة رؤية «عُمان 2040»، حيثُ أصبحت النهضة في مفهومها الجديد مشروع وطن يشارك فيه الجميع. فالقرارات اليوم تقاس بقدرتها على إشراك الإنسان في مسارها، لا بجرأتها التشريعيَّة أو بما تحققه من مؤشرات وأرقام، ولقد تجاوز المواطن كونه طرفًا في المعادلة، ليصبحَ هو المعادلة نفسها، وكُلُّ جهد وطني لا يمرُّ عبر وعيه ومشاركته يظل ناقص الأثر. فالمرحلة الَّتي تعيشها السلطنة الآن تعيد تعريف المواطنة لِتكُونَ فعل مشاركةٍ يوميَّة في التنمية، ومسؤوليَّة عن استدامة المكتسبات، لتمنح هذه الروح النهضة معناها المتجدد. فالدولة الَّتي تزرع الثقة في إنسانها تحصد استقرارًا وازدهارًا يدوم، والمواطن الَّذي يشعر بأنَّه شريك في القرار يحميه بوعيه قبل قانونه، إنَّها علاقة توازنٍ بَيْنَ القيادة والشَّعب، أرادها جلالته ـ أبقاه الله ـ أن تقوم على المشاركة والاحترام، لتفتح أمام الأجيال القادمة طريقًا أوسع نَحْوَ مستقبل تصنعه الأيدي الَّتي آمنت بفكرها ووطنها.

إبراهيم بدوي

[email protected]