من قلبِ الوجع ينفجر الغضب كُلَّما تكرر المشهد ذاته، أطفال ينتشلون من تحت الركام، وأُم تودِّع أبناءها وقد اختلط التراب بدمِها، فيما يخرج العالم ببيانات باردة تُشبه الصَّمت أكثر ما تُشبه الموقف. فخلال اليومين الماضيين، عادت آلة القتل الصهيونيَّة لتقصفَ غزَّة بذريعة الرد فاغتالت العشرات من المَدَنيين، بَيْنَهم نساء وأطفال، في انتهاك جديد لكُلِّ ما تبقَّى من معنى للقانون الإنساني، هذه الجرائم تؤكد أنَّ الكيان الصهيوني لا عهدَ له ولا ميثاق، يتعامل مع التهدئة كفرصة للقتل، ومع الهدنة كفصلٍ جديد من العدوان، وكُلُّ مَن له ضمير يدرك أنَّ ما يجري ليس صراعًا عسكريًّا، إنَّه مشروع اقتلاع متواصل لشَعبٍ أعزَل يُعاقَب لأنَّه صامد، بَيْنَما يقف العالم موقف المتفرج على مشهد يُعِيد تعريف القسوة في أبشع صوَرها.
لقد أصبح الدَّم الفلسطيني شاهدًا على جريمة متواصلة تُرتكَب أمام مرأى العالم وصَمْته، كُلُّ قصفٍ ينهب حياة عائلة كاملة، كُلُّ مستشفى يُصاب أو يُقصف يتحوَّل إلى قبر جماعي، وكُلُّ شارع في غزَّة صار لوحة عزاء لا تُمحى.. حيثُ المشاهد الأخيرة تثبت أنَّ العدوان يستهدف مُجتمعًا بكامله، يُدمِّر سُبل العيش ويقضي على المستقبل أمام أعْيُن أطفالٍ فقدوا حقَّهم في اللَّعب والتعليم.. والمؤسَّسات الدوليَّة تصدر بيانات تتكرر دُونَ أثَرٍ عملي، ومعابر الإغاثة تُغلق لِتصبحَ أداةَ ضغطٍ تُضاعِف معاناة المَدَنيين. فالإنسان الطبيعي الَّذي يشاهد تلك الجرائم لا بُدَّ أن يتراكمَ عزاؤه إلى غضب عميق؛ لأنَّ التجارب المتكررة تؤكد أنَّ المواصلة على هذا المنوال تعني مَحْوَ وجودٍ بَشَري وشطبًا لتاريخٍ وثقافة وحياة.. وعلى مستوى الضمير والواجب، المطلوب تحرُّك فوري وعملي يضع حدًّا لهذه الجرائم، وفتح المعابر، وحماية المستشفيات والمدارس، ومحاسبة مَن يرتكب الجرائم بحقِّ المَدَنيين دُونَ غطاء أو مسوِّغ.
إنَّ النكوص الصهيوني عن كُلِّ التزاماته أو عهوده تحوَّل إلى منهج ثابتٍ يشهد عليه العالم بأسْره.. ففي الأيَّام الَّتي كان يُفترض أن تُكرَّسَ لوقف إطلاق النار وتبادل المساعدات الإنسانيَّة، اختار الاحتلال أن يحتفل على طريقته الخاصَّة بالدَّم والدَّمار، وهذا التمادي في الغدر يؤكد أنَّ محاسبة الكيان الغاصب أصبحت واجبًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا لحماية ما تبقَّى من معنى للعدالة في هذا العالم. فجرائمه المتواصلة في غزَّة والضفَّة والقدس تكشف عن مشروع لا يعرف حدودًا، سرطان يتمدَّد في جسدِ الجغرافيا والضمير معًا، يُهدِّد أمن الشرق الأوسط ويُصيب الاستقرار العالمي في مقتل، والصَّمت على هذه الجرائم يُعادِل المشاركة فيها؛ لأنَّ مَن يفلت من العقاب اليوم يفتح الطريق أمام انهيار القِيَم غدًا، ويمنح للغطرسة الصهيونيَّة ترخيصًا جديدًا لمواصلة القتل بلا حساب.
إنَّ ما يحدُث في فلسطين المكلومة يُشكِّل لحظةً فاصلة بَيْنَ ضمير إنساني ما زال يُقاوِم البُكم، ونظامٍ دولي غارق في نفاق المصالح، والعدوان الصهيوني المتواصل تخطَّى إرهاب الحرب؛ لِيصبحَ كشفًا كاملًا لسقوط المنظومة الأخلاقيَّة الَّتي يتغنَّى بها العالم.. فحين تقصف المستشفيات والمخابز وتُدفن العائلات تحت الركام، وتغلق المعابر في وجْه المرضى والجائعين، تتجلى المأساة في أوضح صوَرها، ويغدو الصَّمت شريكًا في الجريمة، ورصد المعاناة اليوميَّة في غزَّة والضفَّة واجب إنساني ومسؤوليَّة أخلاقيَّة على كُلِّ مَن شهد اتفاق الهدنة ووقَّع عليه؛ لأنَّ السماح لكيان الاحتلال الصهيوني المارق بالتَّمادي في القتل بعد كُلِّ تلك الالتزامات الموقَّعة يعني أنَّ القانون الدولي يُدفَن مع الضحايا، والعدالة تقاس بالقدرة على ردع مَن يستهين بالحياة البشريَّة، وإلَّا فإنَّ العالم يسير نَحْوَ سقوط جماعي في هاوية من الصَّمت والخزي، وسط هذا الركام، تبقى فلسطين صرخة الوعي الأخيرة، تذكِّر مَن نسِيَ أنَّ الكرامة لا تهدأ بالهُدن، وأنَّ مَن يظن أنَّ الوقت كفيل بإخماد هذه القضيَّة لا يدرك أنَّ جذورها أعمق من كُلِّ قصف وحصار.