الأحد 19 أكتوبر 2025 م - 26 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

ألسُن وحكايات : العودة إلى «الروضةِ» الرؤوم «1»

ألسُن وحكايات : العودة إلى «الروضةِ» الرؤوم «1»
الأحد - 19 أكتوبر 2025 12:00 م

ناصر المنجي

60

قبل سنوات وفي شهر رمضان بعد صلاة التراويح، كنت في شقتي بمسقط، نفسي تسألُني : لِمَ تستأجر في مسقط وتقيم متنقلاً بينها وبين القرية، لماذا لا تقيم بشكلٍ نهائي في المهد الأول والحضن الأخير بلدتك (الروضة) شمال الشرقية، وهي التي ليست بالبعيدة عن مسقط، لم تكن لديّ نية مسبقة، ولم أشاور أحداً في الفكرة، قبل العيد بيوم أخذتُ ما تيسّر من كتبٍ وملابس وودّعت جيراني الذين أعرف، نثرتُ قبلةً في هواء الشقة تعبير شُكرٍ لها .عشتُ مع والدي رحمة الله عليه في مسقط، حيث كان يعملُ تاجراً فيها، درستُ بعض سنوات المرحلة الثانوية بها، أكملتُ دراستي الجامعية وعملت في مسقط، تحبُباً كان الكثيرون ينادونني (راعي) الروضة أو (ود) الروضة مثلما يُطلق علي العَمّ والصديق الشاعر سماء عيسى الى اليوم، لم تبهرني أضواء مسقط الجميلة كثيراً، روح القرية وقلبها هي التي ما زالت تسكنني كأغلب العمانيين، وإن عاشوا في المدن لفترات من حياتهم، هنا في القرية أغوص في الفلج وأحسُّ أن خريرَ مائه يقول لي: أخيراً عدت أيها المشتاق، أفلاج الروضة ربتني خيرُ تربية، مرّت أمامي ذكريات سنوات المَحَل حيثُ ( يُكفَت ) الفلج، بمعنى أن لا يأخذ المزارع حصته المملوكة كل أسبوعين من ماء الفلج المعروفةُ ب (الأثر) لأن الفلج مُتهدِّم والماء قليل والفلج يُراد له خدمةٌ وصيانة، كُنتُ في الإجازة الصيفية مع مجموعة من أبناء الجيران نذهب إلى (ثقاب) رأس الفلج صباحاً بعد الإفطار مُباشرةً، نعمل مع رجال القرية في إزالة الطين والأحجار من رأس الفلج، ننزل بالحبل عدة أمتار، الظُلمة هي المسيطرة على (السلّ) الذي هو مجرى الفلج، نوعية العمل تعتمد على عمر وبنية جسد من يعمل، القوي هو الذي يقوم بتكسير الأحجار التي تعيق مجرى الفلج ويجعل الطين في الدلاء، الأقل منه يأخذها إلى رأس الثقبة وهي المكان الوحيد الذي به القليل من ضوء الشمس، الصغير وضعيف البنية مثلي كان عليه أن يُعلّق الدلو ليرفعه الآخرون بحبلٍ إلى الأعلى، ونحن نعمل بالفلج في الظلام، كنا نسردُ القصص التي قرأناها ، وأحياناً كنا نُغني أغاني الأطفال التي حفظناها من المذياع أو التلفاز، ننشدُ الأناشيد، آه لذلك الزمان الجميل، ليتني كنتُ عالقاً فيه الى آخر أيامي، العمل في القرية هو ما يجعل المرء رُجلاً وهو ما يزال في سنواته الأولى يحبو في مُتعرجات الحياة .

أستيقظُ في الصباح لأمارس رياضة المشي الأحب الى قلبي، يا لجمال المشي بين ضواحي النخيل والفلج يسايرني، يمشي معي وهو يجري في الساقية، خرير الماء موسيقى تحفزني للمشي، أرى على يميني حقل نخلٍ هو ملك للعائلة، يا الله، أراني مع والدي ونحن نزرع فسائل النخل قبل ما يقارب الأربعين عاما، أنا وأبي من قمنا بزراعتها، أتذكرُ إنني أُردّد : زرعوا فأكلنا فنزرعُ ويأكلون، أتطّلع إلى النخل ذات الأكمام، تلك النخلة التي بكيتُ وصرختُ وأنا في غدرها، عُمري وقتها أربعة عشر عاما، كُنتُ أقوم ب (تنبيت) النخلة، لم أدري أن السماء ستمطر والريح تأتي، أخذت النخلة تتراقص على الأنغام التي عزفتها الريح، تتمايل ذات اليمين والشمال وأنا متمسكٌ بزورها في محاولة للتشبث وعدم السقوط، ألمح نخلةً أخرى، هذه قمنا أنا وصديقي بقطع زورها وهي صرمة كي تكون عُصي نضربُ بها أبناء الجيران، ليرانا صاحبها ويقبض علينا ويضربنا بالزور التي قطعناها، كل نخلةٍ لها ذكرى خاصةٍ بها، منظر النخيل يروي لي تاريخ الطفولة الجميلة بحق .

ناصر المنجي

[email protected]