يُخيَّل للمتابع لاتفاق وقف إطلاق النار في قِطاع غزَّة الَّذي عملت الولايات المُتَّحدة على التوصُّل إليه وهندسته بالشراكة مع حليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الصهيوني، أنَّه اتفاق نهائي غير قابل للانتهاك، وسيعمل الساعون إليه والضامنون له، وفي مقدِّمتهم الولايات المُتَّحدة وحليفها الكيان الصهيوني، وبقيَّة القوى الدوليَّة إلى تنفيذ بنوده بما يؤدي إلى حقن دماء الأبرياء وعودة المهجَّرين الَّذين تقطَّعت بهم السُّبل إلى أطلال منازلهم وقراهم وأحيائهم. إلَّا أنَّ تطورات الأحداث على الصعيد العسكري الصهيوني، حيثُ التصعيد الإرهابي الصهيوني على قِطاع غزَّة واستهداف الأطفال والنساء وكبار السِّن مُجدَّدًا، تشي بأنَّ ثمَّة نكوصًا على الأعقاب يطيح بكُلِّ الآمال والطموحات الَّتي سادَتْ بُعَيْدَ الاتفاق، وكذلك الحال على الصعيد السياسي الصهيوـ أميركي حيثُ التلويح المستمر والوعيد الشديد بشنِّ العدوان من جديد.
وعِندَ محاولة استقراء هذه التطورات يُمكِن استلماح عدد من الأمور، منها:
أوَّلًا: إنَّ اتفاق وقف إطلاق النار في قِطاع غزَّة يُشبه أو بالأحرى صورة أخرى لاتفاق وقف إطلاق النار بَيْنَ المقاومة الإسلاميَّة في لبنان وكيان الاحتلال الصهيوني (مع ملاحظة أنَّ المهندس في الاتفاقين هو الأميركي)؛ بمعنى أنَّ كيان الاحتلال الصهيوني قد تخلَّص من عبء الأسرَى الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينيَّة في غزَّة، والَّذي يُمثِّله أهالي هؤلاء الأسرى جرَّاء مظاهراتهم واحتجاجاتهم المستمرة المطالِبة بإطلاق سراحهم، وأصبح العدوُّ الصهيوني في حلٍّ من هذا العبء، ما يعطيه الأريحيَّة المطلقة في نقض الاتفاق، تمامًا مثلما تخلَّص من عبء المقاومة الإسلاميَّة اللبنانيَّة الَّتي أنهكت كيان الاحتلال الصهيوني وجيشه المهزوم الموصوف زورًا بأنَّه «الجيش الَّذي لا يُقهَر»، وبالتَّالي نَقَضَ الاتفاق وغَدَا صباح مساء كُلِّ يوم يشنُّ عدوانه على لبنان منتهكًا سيادته. وعليه، ما يُشاهَد على الساحة اللبنانيَّة يُمكِن مشاهدته في قِطاع غزَّة، حيثُ القصف واستهداف الأطفال والنساء وكبار السِّن.
ثانيًا: وقف إطلاق النار ضرورة أملَتْها على الطرف الصهيوني المعتدي، ومن ورائه الأميركي الَّذي جاهر، وتفاخر بأنَّه زوَّد حليفه الصهيوني بأفتك الأسلحة ضدَّ المدنيين الأبرياء في غزَّة.. فكما كادت الضربات النوعيَّة والصمود الكبير واللافت للمقاومة الإسلاميَّة في لبنان تُهشِّم أسطورة «الجيش الَّذي لا يُقهَر»، كذلك حال المقاومة الفلسطينيَّة الَّتي أرهقت جيش العدوِّ الصهيوني وأذاقته الويلات، واتِّباعها تكتيكيات في غاية الذَّكاء والصبر والصمود والتضحية؛ لذلك اتفاق وقف إطلاق النار، سواء في لبنان أو في قِطاع غزَّة، فرَضَته بسالة المقاومة.
على الجانب الآخر، مثلما كان اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان مَخرجًا أميركيًّا لحفظ ماء وجْه جيش الاحتلال الصهيوني المُمرَّغ أنفُه في التراب، فإنَّ الحال ذاته في قِطاع غزَّة، الأمر الَّذي يُتيح للعدوِّ الصهيوني وحلفائه وعملائه الانتقال إلى أساليب غير مُرهِقة ماديًّا وغير مُكلفة بَشريًّا كأُسلوب التجسُّس ودسِّ العملاء وتتبُّع تحرُّكات قيادات المقاومة وعناصرها، ومخازن أسلحتها، والأنفاق، ثمَّ القيام باستهدافها. ولعلَّ ما يؤكد هذه الحقيقة التصريحات الأميركيَّة اللافتة الَّتي تتهم حركة حماس بنقض الاتفاق؛ بزعم استهداف الحركة المَدَنيين في قِطاع غزَّة، في حين أنَّ الحقيقة هي محاولة للتدخل لمنعِ المقاومة الفلسطينيَّة من تنظيف القِطاع من جميع الخونة والعملاء والجواسيس، الَّذين أراد الأعداء منهم جيوشًا بالوكالة تجمع المعلومات وتُرسل الإحداثيَّات.
ثالثًا: الكلفة الاقتصاديَّة الباهظة لكيان الاحتلال الصهيوني، وتدهور اقتصاده جرَّاء عمليَّات المقاومة وأنصار الله في اليمن، ولولا الدعم الأميركي عَبْرَ المليارات المقتطعة من التريليونات العربيَّة لكان الاقتصاد الصهيوني قد أُصيب بالانهيار.
خلاصة القول: إنَّ مَن لدَيْه أجندة وأهدافًا استعماريَّة تتجاوز دماء الشَّعب الفلسطيني فلن يتوقفَ، ولن يرتدعَ عن مواصلة تحقيق أهدافه. وعليه، سيتواصل سفكُ دمِ الفلسطينيين بأساليب شتَّى وأشكال مختلفة. ولكنَّ اليقين أيضًا بأنَّ مَن قدَّم مئات الآلاف من الشهداء في سبيل أرضه وعِرضه وكرامته، مستعدٌّ لتقديم المزيد منها.
خميس بن حبيب التوبي