السَّعي إلى تحقيق الأمن الغذائي غايته ضمان (حصول جميع النَّاس في جميع الأوقات على ما يكفيهم من غذاء ملائم من النَّاحية التغذويَّة والآمن جودةً وكميَّةً ونوعًا، لممارسة حياة ملؤها النشاط والحيويَّة) والصحَّة والعمر المديد. وما زلتُ أذكُر عِندَما كنتُ طالبًا في المرحلة الابتدائيَّة، أي قَبل خمسة وأربعين عامًا من الآن، كان موضوع الأمن الغذائي حاضرًا بقوَّة في منهج مادَّة (الجغرافيا)، وكانت السودان بأراضيها الزراعيَّة الشاسعة والخصبة، ونهرَيْها الأزرق والأبيض اللَّذيْنِ يلتقيان في العاصمة الخرطوم، ويتدفقان بغزارة في مجرى واحد يفيض بالحياة في طريقه إلى مصر العروبة، واليد العاملة البشريَّة الموجودة هناك بوفرة، يُطلق عليها (سلَّة الغذاء العربي) تأكيدًا على أنَّ العالم العربي لن يشكوَ من العوز والجوع بوجود بلد عربي كالسودان، وبالتَّالي لا مُشْكلة تواجهه في تحقيق أمنه الغذائي، ولن يحتاج إلى مساعدة خارج امتداده العربي الواسع، وكانت التطلُّعات والطموحات والشعارات والقناعات والدراسات والتوصيات تدعو في كُلِّ اجتماع ولقاء يجمع زعماء الأُمَّة ووزراءها المشرفين على جهات الاختصاص، إلى السرعة في تحقيق الوحدة الاقتصاديَّة، والاستثمار في المشاريع والأسواق المشتركة بَيْنَ البلدان العربيَّة، وبذل الجهود والإمكانات بإسهام كُلِّ بلد عربي بما يملكه في تحقيق التكامل الاقتصادي وفي مقدِّمته الأمن الغذائي العربي برؤوس الأموال، الأراضي الخصبة، اليد العاملة الوفيرة، الخبرات والكفاءات والمهارات، القوَّة الشرائيَّة والأسواق... فلكُلِّ بلد عربي خصيصة وملكة وثروة تقتضي المسؤوليَّة بأن تشترك جميعها في تحقيق ازدهار ورخاء المُجتمعات العربيَّة وتوفير الحياة الآمنة الخالية من القلق والتوترات، فقد كانت اللُّغة مشتركة، والمبادرات تستهدف الشعوب والدول العربيَّة جميعها، والتطلُّعات والرؤى مُجتمعة على حقيقة الوحدة الشاملة الَّتي لا مناص ولا محيد عنها، وكان الاستشهاد في كُلِّ عمل وفعل وخطوة وطموح وشعور يتكئ على الحديث النبوي الشريف: (مَثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى). وبعثرت رياح المصالح السياسيَّة والنخبويَّة ولوبيَّاتها، والصراع والاستحواذ على كراسي الحكم والتشبث بها، والخلافات العميقة المفتعلة بَيْنَ الأنظمة الحاكمة والانقسامات والتحزبات والصراعات وتحكُّم واستشراء الفساد وهيمنة مافيا النفوذ، كُلَّ المشاريع الطموحة والدراسات المتخصصة والمبادرات العظيمة الَّتي تدفع نَحْوَ قيام نهضة اقتصاديَّة عربيَّة شاملة، وتوفير متطلبات الأمن الغذائي، وتحقيق الرخاء والازدهار للمُجتمعات العربيَّة. وعانى المواطن من غلاء الأسعار وارتفاع المواد الغذائيَّة الأساسيَّة الَّتي تضاعفت أسعارها مرَّات ومن قلَّتها وضعف الدخول وشح الأعمال، وتفاقمت البطالة واتسع شبح الجوع وهاجرت الملايين إلى أوروبا وأميركا وآسيا بحثًا عن الحياة الكريمة والعمل والطعام، متحدِّين سلسلة لا نهائيَّة من المخاطر، ففقَدَ الكثيرون أرواحهم قَبل بلوغ بَر الأمان، لقد تركوا أوطانهم بعد أن ضاق بهم الحال ولم يجدوا عملًا، ولم تتوافر لهم حياة كريمة بسبب الفساد والعبث بالأموال العامَّة وسيطرة أنظمة لا همَّ لها إلَّا تحقيق مصالحها والبقاء في السُّلطة وتعظيم أرصدتها في المصارف العالميَّة. ورغم ما تمتلكه بلدانها من ثروات النفط والغاز والأسماك والمعادن والصناعات والمُقوِّمات السياحيَّة والمواقع الاستراتيجيَّة والأراضي الزراعيَّة الخصبة والمياه، إلَّا أنَّ شعوبها تعيش حياة الفاقة والفقر والجهل والبطالة، فأهملت الزراعة ولم يتمكنِ المزارعون من الاستمرار في العمل لضعف الدخول وغياب التشجيع والاستحواذ على أراضيهم وتحويلها إلى أغراض أخرى لصالح أصحاب النفوذ، ودمّرت الأراضي الزراعيَّة، وتوقَّفت المصانع... وانهارت اقتصادات العديد من البلدان العربيَّة. وفي مرحلة ثانية كتَبْنا مطالِبِينَ بمشاريع خليجيَّة مشتركة تسعى إلى تحقيق الأمن الغذائي بالاستثمار داخل البلدان الخليجيَّة وفي خارجها، فقد كنَّا مطمئنين إلى أنَّ الخليج كتلة واحدة وكيان صلب لا يُمكِن تجزئته والمشترك بَيْنَ دوله أكبر بكثير من المختلف عليه، وأكَّدت لَنا الأيَّام أنَّ المرض العربي أعمق وأخطر ممَّا تصورناه وعدواه تنتشر بسرعة، وجاءت الدروس الخليجيَّة فيما بعد قاسية في ملفات وأحداث كثيرة معروفة لا تستدعي نكئ الجراح بإعادة الحديث عنها. وأذكُر أنِّي نشرتُ مقالًا قَبل سنوات أشرتُ فيه إلى أنَّ (الارتفاع المتصاعد في السنتين الأخيرتين لأسعار المواد الاستهلاكيَّة في الأسواق المحليَّة والإقليميَّة والعالميَّة على السواء، أدَّى إلى وضع موضوع الأمن الغذائي في صدارة الملفات الَّتي تركّز عليه حكومات المنطقة كهدف استراتيجي تعمل بطُرق مختلفة على تأمينه ودراسته، ووضع العديد من الخيارات لمعالجته، والنظر إليه بعُمق حرصًا على توفير السلع الغذائيَّة لجميع المواطنين بمختلف أنواعها ودرجاتها وتصنيفاتها، وبأسعار تكُونُ في متناول يد كُلِّ الشرائح بِغَضِّ النظر عن مستوياتها الماديَّة)، وذكرتُ أنَّ المآخذ على تلك الجهود الَّتي (تقوم بها الدول الخليجيَّة أنَّها تعمل وتتحرك بشكلٍ منفرد وسرِّي دُونَ تنسيق مشترك، ويلفُّها الكثير من الغموض بحسب ما تبَيَّنَ من خلال التسريبات الَّتي ينشرها الإعلام عن محادثات واتفاقيَّات منفردة مع دول إفريقيَّة وآسيويَّة تتمتع بوفرة المياه وخصوبة الأرض وجودة المحاصيل الزراعيَّة مع توافر حالة الاستقرار وذلك بغية استثمار تلك الأراضي في القِطاع الزراعي، وضخ منتجاتها للسوق المحلِّي ومخازن الاحتياط، رغم ما يكتنف تلك الاستثمارات من مخاطر؛ كونها تتمُّ في بلدان معرَّضة لصراعات وحروب وكوارث طبيعيَّة، وتغيير للنظام السياسي وتبدل القوانين والأنظمة، مع ما يترتب على ذلك من ضغوطات وضرائب وآثار سالبة على هذا النَّوع من الاستثمار الَّذي يتعرض لتحدِّيات ومشاكل عديدة). وطالبتُ بأن (تعمل هذا الدول مُجتمعة، وأن تسعى وأن تنسق وتتشاور فيما بَيْنَها لتحقيق الأمن الغذائي، إذ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ عمليَّة التنسيق وتفعيل العمل المشترك بَيْنَ دول مجلس التعاون وإجراء المحادثات وعقد الاتفاقيَّات مع دول ومؤسَّسات مختلفة في مثل هذه القضايا الأساسيَّة والمحوريَّة للقيام بالاستثمار في القِطاع الزراعي على أراضٍ أخرى يعطي ذلك الاهتمام وتلك الجهود وتلك الخطوات والاتفاقيَّات ميزة القوَّة والنجاح، ويجنِّبها الكثير من المخاطر، ويخفِّض قِيَم التكلفة ويُحقِّق مبدأ التعاون، ويضع بنود العمل المشترك موضع التنفيذ، ويشعر المواطن الخليجي بالاطمئنان، وهذا ما يتمنى أن يراه كُلُّ مواطن خليجي متحققًا على أرض الواقع). اليوم أصبحتْ تلك الملاحظات والمطالبات والتطلُّعات والطموحات أشْبَه بِوَهمٍ، وتغيَّرت اللُّغة من منظومة خليجيَّة لتحقيق الأمن الغذائي إلى مطالبة بأن تستلهمَ كُلُّ دولة خليجيَّة من دروس المرحلة، وأن تسعى إلى الاعتماد على اقتصادها وموانئها ومطاراتها وعلاقاتها البعيدة في تحقيق أمنها الغذائي، وأن تتجاوز المنظومة العربيَّة والخليجيَّة، فلا تتهاون في مستقبل الغذاء وتحقيق الاكتفاء لمُجتمعها.
سعود بن علي الحارثي