تُشكِّل المتابعة السهل الممتنع في معادلة حوكمة المشروعات الوطنيَّة الاقتصاديَّة والتنمويَّة، وأحد أبرز التحدِّيات والطموحات الوطنيَّة في مجال إدارة مشروعات التَّنمية ذات القِيمة المضافة، ذلك أنَّه كُلَّما ارتكزت منظومة المتابعة على مسارات عمل واضحة الأهداف، والتزمت في تحقيق أهدافها إجراءات وأدوات تنفيذ دقيقة، وخطط ومنهجيَّات ضابطة وتشريعات مؤطرة، والتزمت المؤسَّسات في عمليَّات المتابعة والتقييم والرصد موجّهات معتمدة ومعايير محكمة؛ ضمنت المتابعة فرصًا أكبر لتحقق مؤشرات تحوُّل قادمة في مسيرة الإنجاز، فهي من جهة تعمل على تقييم مراحل الإنجاز في المشروع المنفذ أو القائم، وفي الوقت نفسه تقدِّم صورة واضحة حَوْلَ خطوات التنفيذ الَّتي تمَّت والخطوات المتبقية، ومقارنة ذلك أو مطابقة التنفيذ الحالي بما هو وارد في الخطَّة التنفيذيَّة وعقد الاتفاق مع الشركة المنفذة للمشروع، الأمر الَّذي تقلُّ فيه نسبة الهدر في تنفيذ المشاريع، سواء كان ذلك على المستوى المالي أو العمليَّات الإداريَّة أو إجراءات التنفيذ، أو مستوى الإجراءات وما قد يحصل من تعقيدات مفتعلة، كما يقدّم بِدَوْره مساحة تفاؤليَّة تَضْمن تفاعل المواطن إيجابيًّا مع هذا المسار؛ فإنَّ المتابعة بهذا المعنى مرحلة جوهريَّة نَحْوَ تعزيز استدامة الإنجاز النوعي للمشاريع، وتحقيق درجة عالية من احترافيَّة التصميم وجودة الأدوات، بما يجعل المشروع قادرًا على التكيف مع الظروف المتغيرة، والتصدي للتهديدات البيئيَّة أو البشريَّة، بل ويصمد أمام أيِّ انتهاكات تمسُّ حقَّه في الاستمرار، الأمر الَّذي يتحول فيه المشروع القائم على كفاءة وجاهزيَّة أدوات الرقابة والمتابعة دقيقة من حالة الركود والجمود إلى عنصر فاعل في تغيير السلوك المُجتمعي وثقافة الاستخدام، ويعزِّز من قِيَم احترام الممتلكات العامَّة، وهو ما يجعل من المتابعة قِيمة مضافة تتجاوز الجوانب الفنيَّة إلى البُعد القِيَمي والثقافي. لتصبحَ ثقافة مُجتمعيَّة وسلوكًا فرديًّا وجماعيًّا يعبِّر عن أعلى مستويات الوعي وأدق تفاصيل الممارسة. وبالتالي أن تشمل منظومة المتابعة مختلف المراحل (ما قبل التنفيذ ومرحلة التنفيذ ومرحلة ما بعد التنفيذ)، وفْقَ مدخلين رئيسين، يرتكز الأول على توفير الأدوات والممكنات والأُطر والاستراتيجيَّات الَّتي تتيح متابعة تنفيذ المشروعات الحكوميَّة بمختلف قِطاعات الدولة، سواء الاقتصاديَّة أو الاستثماريَّة أو السياحيَّة أو الصناعيَّة أو التجاريَّة أو تلك المتعلقة بالبنية الأساسيَّة كالمياه والكهرباء والطرق والسدود والأسواق والجسور، ويُعنى هذا المدخل بقياس مدى التزام هذه المشروعات بالمواصفات والمعايير والشروط المعتمدة، وذلك من خلال خطط دقيقة لمتابعة التنفيذ، ومحكات واضحة تُحقق الجودة والكفاءة والإنتاجيَّة والوقوف ميدانيًّا على الواقع الفعلي عبر فِرق تقييم ومتابعة وتشخيص تستفيد من منظومة المؤشرات الوطنيَّة والمحتوى الوطني في تحقيق الأهداف المرجوة من عمليَّة التقييم، ومراجعة الشروط مقارنة بما تم إنجازه، وإعداد تقارير دَوْريَّة تعكس موقف المشروع التنفيذي، ونِسَب الإنجاز، والسيناريوهات المحتملة لإتمامه، والضمانات المعتمدة الَّتي تُظهر مدى التزام المقاول أو الجهة المنفذة بإجراء التعديلات والتصحيحات اللازمة، ممَّا يستدعي وجود ممكنات تخطيطيَّة وتشريعيَّة وتنفيذيَّة وضبطيَّة وفنيَّة لدى الجهات المختصة، تمكِّنها من إصدار أوامر تشغيليَّة مباشرة تَضْمن إنهاء المشروع ضمن الإطار الزمني المحدَّد له.
أما المدخل الثاني فيتعلق بالمتابعة لما بعد التنفيذ، وهي مرحلة نوعيَّة لا يقلُّ أهميَّة عن مرحلة الإنجاز نفسها، بل رُبَّما يفوقها في بعض الأحيان من حيثُ الأثر والنتائج، إذ ينطلق من تقييم الموقف التنفيذي بعد تسليم المشروع للجهات المختصة، ويُعنى بخطَّة العمل الموضوعة للتشغيل والإدارة، ومدى جديَّة الإجراءات المتبعة، وكفاءتها ومهنيَّتها، وتأثيرها في تعظيم القِيمة الاستثماريَّة للمشروع، والحفاظ على مؤشرات نجاحه، وتحقيق الأهداف الَّتي أُنشئ من أجلها، فضلًا عن قياس مستوى استفادة المواطنين والفئات المستهدفة منه، وقدرته على إحداث تحول ملموس في الواقع المُجتمعي المحيط به، هذا الأمر يستدعي تبني سياسات ومنهجيَّات عمل أكثر احترافيَّة في آليَّة تنفيذ المشاريع التَّنمويَّة وتعظيم قِيمتها المُضافة، تعكس مستوى الاحتياج لهذا المشروع وفْقَ مؤشِّرات واضحة تُراعي مختلف العوامل والمؤثِّرات والظُّروف والمتغيِّرات والنُّمو السكَّاني وحَجْم الأنشطة الاقتصاديَّة والسِّياحيَّة فيها، والتَّحوُّلات الَّتي تستشرفها المحافظات حتَّى عام 2040.
لقد أظهرت السنوات القليلة الماضية أهميَّة المتابعة بوصفها قِيمة مضافة أسهمت في تعزيز الثقة المُجتمعيَّة بالأداء الحكومي، من خلال بعض التجارب الناجحة لمؤسَّسات الدولة، والَّتي تحوَّلت فيها المتابعة إلى معيار تنافسي ومؤشر على نضج المؤسَّسة، نموذجًا عمليًّا لرسم خريطة تطويريَّة لمستقبل المؤسَّسة، لتصبحَ المتابعة والرقابة ثقافة مؤسَّسيَّة راسخة، لا يُمكِن تجاهلها، بل أداة لترسيخ مفاهيم المواطنة والمسؤوليَّة والالتزام، ونقل الموظف من ممارسة الوظيفة كروتين إداري إلى أداء العمل كمهمة وطنيَّة تُدار بروح الإبداع والابتكار، وبما يتجاوز حدود الزمن الرسمي للعمل، حيثُ تقاس المتابعة بقراءة مؤشرات الإنجاز وتحليل واقع المشروع، وصولًا إلى قرارات استراتيجيَّة تَضْمن حسم مسائل الإنجاز بشكل عملي وفعَّال؛ وفي المقابل، أبرز الواقع وجود حالات من القصور في بعض المشروعات، لم تقتصر على التأخير الزمني فحسب، بل شملت الإخفاق في التصميم والتنفيذ، وضعف جودة المواد المستخدمة، وهو ما يفرض الحاجة الملحَّة إلى تطوير إطار عمل وطني يمنح المتابعة والتقييم موقعًا مركزيًّا في الجهازين الإداري والمالي للدولة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ تقييم بعض المشاريع الجاري تنفيذها في عدد من المحافظات يكشف عن ضرورة مراجعة توجهاتها، حيثُ إنَّ بعضها لا يخدم الهدف الاستراتيجي للمشاريع المنتجة، ولا يسهم في فتح آفاق جديدة لانخراط المواطن فيها، بوصفها مصدر دخل حيوي للأُسر المعسرة ومحدودة الدخل، ومساحة اقتصاديَّة مرنة لفئة الشباب العُماني الباحث عن فرص عمل أو المسرّح من عمله، بما يسمح لمحافظته وولايته باحتوائه ودعمه. كما تفتح هذه المشاريع المجال أمام مشاركة متوازنة بَيْنَ الجنسين ومختلف الفئات العمريَّة، بما يرسّخ نهجًا تنمويًّا شاملًا ومستدامًا. من هنا تأتي أهميَّة تحليل الرجع الميداني للمواطن حَوْلَ المشاريع الَّتي تم طرحها، ومدى قدرتها على تلمس مفهوم المشاريع المنتجة، وقدرتها على إعادة تغيير وهندسة الواقع الاقتصادي، وكفاءتها في خلق فرص ذاتيَّة للمحافظات للاستفادة من موارها بشكل سليم، وأثرها في تشجيع المواطنين وروَّاد الأعمال والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة والشباب وغيرهم بالتفكير في أنشطة ومشاريع اقتصاديَّة منتجة لها أبعادها الإيجابيَّة على سكان المحافظة، وتعطي صورة إيجابيَّة نَحْوَ الاستثمار الذكي. بحيثُ تراعي فيه عمليَّة المتابعة تحقيق معادلة التوازن بَيْنَ المرونة والصرامة بحيثُ يُمكِن لمؤسَّسات المتابعة أن تتدخل بسُلطة القرار، وتُمارس دَوْرها وفق نهج قائم على التقييم الموضوعي والمحاسبة الفعليَّة، ومن جهة أخرى، مراجعة أداء المؤسَّسات الرقابيَّة القائمة، وتزويدها بالأدوات والصلاحيَّات اللازمة لتفعيل دَوْرها بما يتماشى مع طموحات التَّنمية الوطنيَّة، بحيثُ تسير خطَّة المتابعة وفْقَ مسار وطني واضح، واستراتيجيَّات أداء حكيمة، ورؤية عمل تتناغم مع طبيعة هذه المشروعات ونوعيَّة البرامج التنفيذيَّة الَّتي تحتاجها، وتحليل الظروف الَّتي تعمل فيها، ويجعلها قادرة على التدخل في تفاصيل المشروعات، والتعامل مع التحدِّيات قَبل تفاقمها، عبر سيناريوهات عمل بديلة، وخطط طوارئ محكمة تضمن استمرار المشروعات بكفاءة، الأمر الَّذي يستدعي ترقية مفهوم المتابعة داخل المؤسَّسات، وتخصيص وحدات مستقلة لها، ومنحها صلاحيَّات تنفيذيَّة، على أن تشمل المتابعة الجوانب الفنيَّة والتنظيميَّة، وتركز على كفاءة الأداء، وجودة التخطيط، ومدى تطابق التنفيذ مع الأهداف التنمويَّة، وربط المتابعة بمؤشرات إحصائيَّة دقيقة، ومعايير تقييم موضوعيَّة، تسمح بمقارنة الإنجاز في فترات مختلفة، وقياس العائد التنموي الحقيقي لكُلِّ مشروع، بما يسهم في تجويد الأداء، ويفتح المجال للتطوير الذاتي للكفاءات الوطنيَّة. أخيرًا، تبقى حوكمة المشروعات مرهونة بوجود إطار عمل وطني فاعل ومؤطر للمتابعة والرقابة، من شأنه أن يرفع من مستوى الكفاءة في تنفيذ المشروعات، ويعزِّز من تبنّي مفهوم الابتكاريَّة في التخطيط والإنتاج، بما يَضْمن كفاءة الإنجاز ومهنيَّة التعاطي مع الحزم التطويريَّة والتشغيليَّة وتوفير الممكنات الداعمة لنجاحها، وتكامل الأدوار بَيْنَ الجهات المنفذة والرقابيَّة، وصولًا إلى نموذج اقتصادي تنموي وطني يُحقق الاستدامة، ويُعزِّز من قِيَمة الإنجاز النوعي في مختلف قِطاعات الدولة.
د.رجب بن علي العويسي