لم يبدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحرب التجاريَّة مع الصين في فترة رئاسته الثانية الحاليَّة، إنَّما ذلك الصراع مع الصين بدأ مبكرًا رُبَّما حتَّى قَبل فترة رئاسته الأولى بعد فوزه بانتخابات 2016. وكانت استراتيجيَّة سلفه الرئيس جو بايدن هي محاصرة روسيا والصين، روسيا بحرب أوكرانيا والصين بالعقوبات والقيود التجاريَّة والضغط على الأوروبيين لفكِّ الارتباط معها. وجاء ترامب في فترة رئاسته الحاليَّة ليبدأ حربًا تجاريَّة على كُلِّ شركاء أميركا، لكن الصين تبقى المستهدف الأول طبعًا. ليس فقط لأنَّ عجز الميزان التجاري مع الصين هو الأكبر وإنَّما لأنَّ الصين تحوز القدر الأكبر من دين الولايات المتحدة السيادي من خلال مشترياتها من سندات الخزانة الأميركيَّة. وأصبحت في العقود الأخيرة مقرًّا لأغلب الشركات الغربيَّة الكبرى، بما فيها الأميركيَّة، الَّتي تصنع فيها لانخفاض كلفة الإنتاج وتصدر منتجاتها إلى الأسواق الغربيَّة بما فيها السوق الأميركيَّة.
بالنسبة للرئيس ترامب، وقاعدته الانتخابيَّة الصلبة الَّتي ترفع شعار «أميركا أولًا»، فالهدف الأبعد هو إعادة الشركات والأعمال إلى الولايات المتحدة لتعزِّز نشاطها الاقتصادي وتوفِّر فرص العمل، وفي الوقت نفسه تحرم الصين من ميزة تنافسيَّة كبرى في التجارة الدوليَّة. يستخدم ترامب سلاح فرض التعريفة الجمركيَّة العالية على الواردات من الصين لإجبار بكين على التوصل لاتفاقيَّات تجاريَّة محابية لأميركا. ومع أنَّ الصينيين يدركون أهميَّة السوق الأميركيَّة لصادراتهم؛ وبالتالي لنشاط اقتصادهم إلَّا أنَّهم لا يستطيعون الخضوع التَّام لرغبات الإدارة الأميركيَّة. فَهُم إن فعلوا ذلك لن تتوقف واشنطن عن الضغط من أجل مزيدٍ من التنازلات. لذا لم يكُنْ أمام بكين من خيار سوى اتخاذ إجراءات انتقاميَّة كرد على الإجراءات الأميركيَّة، ليس فقط فرض تعريفة جمركيَّة على الصادرات الأميركيَّة وإنَّما أيضًا تشديد القيود على تصدير معادن الأرض النادرة الَّتي تستحوذ الصين على إنتاجها وتصنيعها وتصديرها عالميًّا. ولأنَّ كافَّة الصناعات التكنولوجيَّة تعتمد على تلك المعادن النادرة كمُكوِّن أساسي في منتجاتها، فإنَّ الشركات الأميركيَّة لا تستطيع الاستغناء عنها. ويعني تشديد بكين القيود على تصديرها أضرارًا هائلة لشركات التكنولوجيا الكبرى وغيرها حَوْلَ العالم وخصوصًا في الولايات المتحدة.
لكن الصين تدرك أيضًا أنَّها لن تستهلك كُلَّ ما تنتج وتعدن وتصفي من تلك المعادن المهمَّة، وبالتالي فهي بحاجة إلى تصديرها، وتُعَدُّ السوق الأميركيَّة منفذًا مهمًّا لتلك الصادرات. وبالتالي فلن ترغب بكين في استمرار التصعيد الَّذي وإن أضرَّ بأميركا إلَّا أنَّه يضر بالصين واقتصادها أيضًا. في البداية، قَبل سنوات، اعتقد الأميركيون أنَّ بإمكانهم إيذاء الصين بشدة بتشديد القيود على نقل التكنولوجيا والابتكارات إليها. إنَّما الواقع أنَّ الصين تطورت بشدة في العقود الأخيرة، وأصبحت تتفوق على الغرب في الابتكار التكنولوجي، وتقدمت جامعاتها بالشكل الَّذي لم تَعُدْ فيه بحاجة للاعتماد على خريجي الجامعات الأميركيَّة والأوروبيَّة. مع ذلك، ما زالت بكين ترسل دارسين للخارج ليس فقط للتعليم، ولكن للاحتكاك البحثي والعلمي مع بقيَّة الخبراء في كُلِّ مجال. لكنَّها لم تَعُدْ مثل ما كان الوضع قَبل ثلاثة عقود أو أكثر. بمعنى أنَّ الصين تبتكر الآن وتطور تكنولوجيا متقدمة ولا «تنسخ» ما يبتكره الغربيون ويطبقونه في مصانعهم بها الَّتي يعمل فيها صينيون يكتسبون خبرة نقل التكنولوجيا. فالمصانع ومعامل الأبحاث الصينيَّة تعتمد الآن على صينيين من خريجي الجامعات المحليَّة.
إذا كانت الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم فإنَّ الصين لدَيْها ثاني أكبر اقتصاد في العالم وبفارق كبير عمن يليها في الترتيب عالميًّا. وهناك بعض الاقتصاديين يرون أنَّ الصين هي أكبر اقتصاد في العالم إذا قيس حجم الاقتصاد بمعادل القوَّة الشرائيَّة دون التقييم بالدولار الأميركي. وأنَّ التقييم بالدولار هو ما يجعل الاقتصاد الأميركي الأكبر عالميًّا على عكس الحقيقة. بِغَضِّ النظر عن كون الاقتصاد الصيني الأول أو الثاني عالميًّا، فالمهمُّ أنَّه أصبح قوَّة هائلة لا يُمكِن التغاضي عنها، ويصل تأثيرها إلى كُلِّ أطراف المعمورة، سواء بالسلع والبضائع أو الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة. لكن القيادة الصينيَّة، حتَّى من قَبل حُكم الرئيس الحالي تشي جين بينج، ليست راغبة في ترجمة تلك القوَّة الاقتصاديَّة إلى دَوْر سياسي عالمي. ذلك على عكس الولايات المتحدة الَّتي تذهب بعيدًا في استغلال قوَّة اقتصادها كذراع للتأثير السياسي وغيره في الشأن الدولي. هذا بالإضافة طبعًا إلى القوَّة العسكريَّة الأميركيَّة الَّتي تُعَدُّ الأكبر عالميًّا وتعطي واشنطن ميزة في السياسة الدوليَّة لا تتحقق لغيرها. إنَّما الصين بدأت بالفعل تطور قدرات عسكريَّة هائلة قد تضاهي القوَّة الأميركيَّة في بعض المجالات، ذلك بالإضافة إلى تطوير الصناعة الفضائيَّة والتكنولوجيا مزدوجة الاستخدام المدني والعسكري. كُلُّ ذلك وبكين لا تغامر بأداء دَوْر دولي يعكس قدراتها العسكريَّة والاقتصاديَّة والماليَّة. وهذا بالمناسبة ليس مريحًا للولايات المتحدة والغرب على عكس ما قد نظن. فتلك القوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة الَّتي لا تستغل سياسيًّا عالميًّا تثير قلق المنافسين بأنَّ أصحابها إنَّما يسعون للمزيد من أجل لحظة «يأخذون فيها كُلَّ شيء» ولا يشاركون الآخرين شيئًا. بمعنى أنَّ أميركا والغرب لا ترى الصين ساعية إلى عالم متعدد الأقطاب لها دَوْر فيه، وإنَّما يستهدفون عالمًا يهيمنون عليه تمامًا وحدهم. وذلك هو لبُّ الصراع العظيم مع الصين.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري