حينما يجتمع شمل العائلة تتعانق الأرواح قَبل الأيدي، وتشرق في القلوب شمس الألفة والمحبَّة، وتتطاير نسائم الحنين.. وعِندَما يشمل هذا الاجتماع أفراد العائلة فلا يكُونُ مجرَّد لقاء عابر، بل هو عودة إلى الجذور واستعادة لدفء المودة الَّتي غرسها الآباء والأجداد في نفوس أبنائها.
وما نحمد الله عليه أنَّ مُجتمعنا العُماني يتميز بالوفاء والتكافل الاجتماعي إيمانًا من أفراده بأنَّ نجاح أيِّ مُجتمع يتوقف على نجاح العلاقات الإنسانيَّة بَيْنَ أفراده والاهتمام بكُلِّ فرد فيه؛ لأنَّهم جميعًا شركاء في التنمية والبناء على حدٍّ سواء.. ولا يسعنا إلَّا أن نرفع القبعة احترامًا وتقديرًا وتحيَّة لكُلِّ مَن يهتم بالتعاون والتكاتف لخدمة هذا الوطن وأبنائه الأوفياء.
إنَّ المُجتمع العُماني ـ ولله الحمد ـ ما زال يحرص على الحفاظ على كثير من عاداته وتقاليده الأصيلة مثل تبادل الزيارات بَيْنَ الأقارب والأرحام والجيران والتجمع في المجالس العامَّة، وتناول القهوة والحلوى وغيرها من المظاهر والعادات الصامدة في وجْه الزمن لا تتغير والَّتي تعكس حرص العُمانيين على تقاليدهم الأصيلة في زمن فرقَّت فيه التكنولوجيا الأواصر بَيْنَ الأقارب.. فتطور وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي كالهاتف النقَّال والواتساب وإكس وفيس بوك وغيرها أسهمت في أن يكتفي البعض بالسؤال والتواصل عَبْرَها لكثير من الأقارب والأصدقاء وليس بتبادل الزيارات شخصيًّا كما كان في السابق بالرغم من أنَّ السيَّارات قرَّبت المسافات وسهَّلت التنقل.
فكم هو جميل أن تمتلئ المجالس العُمانيَّة بالذكريات الجميلة والحكايات الشيقة الَّتي يتبادلها الكبار مع الشَّباب وكأنهم في البيت الكبير الَّذي كان يحتضن الجميع قديمًا.. وجميل أن تسرد فيها القصص هنا وهناك، خصوصًا تلك الَّتي تروي إنجازات الأجداد مثل جابر بن زيد والفراهيدي وابن دريد وغيرهم من العلماء الَّذين مضوا وبقيت سِيرتهم منارة تضيء الدروب وتذكر الأبناء بأنَّ المجد لا يُصنع إلَّا بالعطاء، وأنَّ الكرامة لا تورث إلَّا مع مكارم الأخلاق.
إنَّ صلة الرحم ليست واجبًا اجتماعيًّا فحسب، بل هي عبادة تزكِّي النفْس وتورث البركة في العمر والرزق.. فعن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ».. ومعنى «مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ» أي زيادة في العمر.. وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الرَّحمُ معلَّقةٌ بالعرش تقولُ: مَن وصلني وصله اللهُ، ومَن قطعني قطعه اللهُ».. فقد أمرَنا الله تعالى أن نصل الرحم لِكَيْ تقوى الأواصر الموجودة داخل المُجتمع.. ولقد خلقنا الله سبحانه وتعالى على المستوى الإنساني شعوبًا وقبائل وعلى المستوى الاجتماعي عائلات وداخل العائلات أُسر وبيوت، وكأنَّما أراد ـ جلَّ شأنه ـ أن يوجد أواصر كالشرايين داخل الجسم تمنحه الاستقرار والسلام الاجتماعي، وبها يقوى المُجتمع وتقوى الدولة، ولأجلِ هذا أمرَنا الله تعالى بصلة الأرحام رغبة في إنشاء مُجتمع قوي.
ما أجمل أن تكُونَ المجالس العُمانيَّة ساحة تؤصّل فيها العادات والتقاليد والسَّمت العُماني، وتُصلح فيها النفوس وتُصاغ من جديد روابط المودة الَّتي تهذِّب القلوب وتُنعش الذاكرة.. وفي تكرار اللقاءات يُزهر المُجتمع كما تُزهر الأرض بعد المطر ويبقى أفراده متماسكين متحابين متعاونين كالسلسلة الذهبيَّة لا ينفصم منها حلقة ولا يبهت فيها بريق.. ففي هذه اللحظات الَّتي تتقاطع فيها الأزمنة يجلس الحاضر بجوار الماضي، ويتسامر الأبناء بأحاديث الآباء، وتظل الأرواح مطمئنة بأنَّ الودَّ باقٍ ما بقيت الأرحام متصلة والقلوب عامرة بالمحبَّة.
وهكذا يبقى تحابُّ المُجتمع وتعاونه وتكاتفه وتواصله مائدة عامرة بالمحبَّة تورث الأجيال معنى الانتماء، وتغرس فيهم الاعتزاز بالجذور الَّتي أنبتتهم.. فكُلُّ تواصل يربط الماضي بالحاضر يمتد نَحْوَ المستقبل.. والجيل الجديد بما يملكه من وعيٍ ومعرفة هو الأمل في أن تستمر هذه الروح الوثَّابة.. روح المودة وصلة الرحم.. وكما حفظ الأجداد تاريخهم بالقصص والمواقف فإنَّ الأبناء اليوم مدعوون ليحافظوا على هذا الإرث بالعطاء وبالحرص على التماسك والتآلف والتعاون، فيبقى الوطن مزدانًا بروابط الرحم الَّتي تشدُّ الناس بعضهم إلى بعض.
فما أجمل أن يظلَّ نداء الأخوَّة والمحبَّة والمودَّة والتعاون والتراحم والتآزر يصدح في القلوب جيلًا بعد جيل لِيبقَى هذا المُجتمع متراصًّا، ويبقى هذا الوطن العزيز قويًّا أبيًّا.
ناصر بن سالم اليحمدي
كاتب عماني