الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 م - 21 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : المشروعات الصغرى تبني توازن التنمية

الثلاثاء - 14 أكتوبر 2025 03:35 م

رأي الوطن

10

تُشكِّل المشروعات الصغرى اليوم الركيزة الأساسيَّة للاقتصادات الحديثة؛ لِمَا تمتاز به من مرونة وسرعة في الحركة وقدرة على الابتكار وخلق الوظائف، في زمن تتبدل فيه الأسواق وتتغير أنماط الإنتاج بوتيرة متسارعة، وأثبتت هذه الفئة من الشركات عالميًّا أنَّها القاعدة الأوسع للنشاط الاقتصادي، إذ تُمثِّل في كثير من الدول أكثر من تسعين بالمئة من إجمالي المؤسَّسات وتوفِّر غالبيَّة فرص العمل، ما يجعلها صمام أمان اجتماعي في مواجهة التقلُّبات الاقتصاديَّة، كما تكمن أهميَّتها في أنَّها مؤسَّسات بشريَّة بامتياز، تدار بالمعرفة والمبادرة أكثر ممَّا تدار برأس المال، وتستمد قوَّتها من قُربها من النَّاس وارتباطها المباشر باحتياجات المُجتمع المحلِّي. ومن هنا تبنَّت الدول المتقدمة سياسات تمويل ذكيَّة وبرامج تمكين رقميَّة تَضْمن لهذه الفئة النُّمو المستدام، مع توسع البنوك التنمويَّة وصناديق التمويل في تقديم قروض ميسَّرة وحوافز ضريبيَّة، وتحويلها من كيانات هامشيَّة إلى ركيزة أساسيَّة في منظومة التنمية الوطنيَّة.

من منطلق تلك الأهميَّة الكبرى الَّتي تحظى بها المؤسَّسات الصغيرة في دعم النُّمو الاقتصادي، تسعى كافَّة دول العالم إلى توفير أشكال متعددة من الدعم الفني والإداري لهذه الفئة الَّتي أصبحت القلب النابض لأيِّ اقتصاد حديث، غير أنَّ التمويل المَرِن يظل الركيزة الأهم لتمكينها من التَّحوُّل من فكرة إلى مشروع منتج، ومن مبادرة فرديَّة إلى كيان مستدام. وهنا يأتي دَوْر بنك التنمية الَّذي استطاع أنْ يجسِّدَ هذه الرؤية بآليَّات عمليَّة واقعيَّة، فنجح في تجاوز حاجز المئة مليون ريال عُماني في تمويل المشروعات الصغرى حتَّى نهاية سبتمبر 2025، موزَّعة على أكثر من عشرين ألف مشروع في مختلف المحافظات. ويعكس هذا الإنجاز تحوُّلًا نوعيًّا في فلسفة الدولة تجاه التمويل، إذ أصبح القرض أداة إنتاجيَّة تُعِيد رسم خريطة التنمية من القاعدة، وتفتح أمام المواطن نافذة حقيقيَّة لِيكُونَ شريكًا في الاقتصاد الوطني ومُسهمًا في استدامة نُموِّه.

إنَّ التوجُّه نَحْوَ دعم القِطاعات الإنتاجيَّة في الزراعة والثروة الحيوانيَّة والسمكيَّة والصناعات الحرفيَّة، يعكس وعيًا وطنيًّا عميقًا بضرورة بناء اقتصاد يرتكز على مصادر حقيقيَّة للنُّمو، ويُحقِّق توازنًا تنمويًّا بَيْنَ المحافظات، ما ينعكس على جودة تطبيق اللامركزيَّة، فهذه القِطاعات تُشكِّل روافد حيويَّة للأمن الغذائي الوطني، ومخزونًا من الخبرة المُجتمعيَّة المتوارثة الَّتي تحوَّلت اليوم إلى طاقة اقتصاديَّة مُتجدِّدة. وقد أظهر توزيع قروض بنك التنمية على هذه القِطاعات إدراكًا لأهميَّتها الاستراتيجيَّة في تحقيق الاكتفاء الذَّاتي وتنويع القاعدة الإنتاجيَّة، إذ شكَّل قِطاع الثروة السمكيَّة ما يقارب (38.5) مليون ريال من التمويل، تلاه قِطاع الزراعة والثروة الحيوانيَّة بنسبة (19) بالمئة، ثمَّ الصناعات الحرفيَّة بنسبة (10) بالمئة، في دلالة على أنَّ الاقتصاد الوطني يعاد تشكيله من جذوره، مستندًا إلى خبرات النَّاس ومهاراتهم المحليَّة كجزء من منظومة وطنيَّة أوسع تُعِيد وصل الإنسان بأرضه ومهنته ومصدر رزقه.

لعلَّ ما يُميِّز التجربة العُمانيَّة في دعم المشروعات الصغرى أنَّها تعاملت مع التمويل كوسيلة لتمكين الإنسان وخلق بيئة إنتاجيَّة رقميَّة متكاملة. فبنك التنمية أعاد تصميم آليَّات عمله لِتصبحَ أكثر توافقًا مع متطلبات العصر عَبْرَ التَّحوُّل الرَّقمي الَّذي سهَّل إجراءات الإقراض وفتح الأبواب أمام النساء والشباب والمتقاعدين لتأسيس مشاريعهم الخاصَّة، ويُعَبِّر هذا التَّحوُّل عن وعي اقتصادي متقدِّم يرى في التكنولوجيا وسيلة لتوسيع نطاق العدالة الاجتماعيَّة، ويجعل من الشمول المالي إحدى ركائز التنمية المستدامة.. وحين يتحول القرض إلى فعل ثقة بَيْنَ الدولة والمواطن، يصبح الإنسان جزءًا فاعلًا من حركة الإنتاج الوطني. ومع توسُّع قاعدة المستفيدين وتطوُّر أدوات التمكين، تتجلَّى ملامح اقتصاد إنساني متكامل، يضع الإنسان في مركز الدائرة، ويجعل من العمل المنتج قِيمة وطنيَّة، ومن التمويل وسيلة لبناء المستقبل في صورته الأكثر توازنًا واستدامة.