شكَّلت جرائم الاحتيال الإلكتروني أكثر الجرائم في سلطنة عُمان في تصنيف الجرائم الواقعة على الأموال، حيثُ كشف الادعاء العام لعام 2024 عن ارتفاع جميع الجرائم العشر الأكثر تسجيلًا في 2024 مقارنة بعام 2023، حيثُ تُشكِّل الجرائم الواقعة على الأموال المرتبة الأولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان في السنوات الأخيرة. ويشير أحدَث إحصائيَّات الاحتيال الإلكتروني إلى تسجيل (5.343) قضيَّة احتيال خلال عام 2024، ما يشير إلى ارتفاع هذه الظاهرة مقارنة بالعام 2023، كما تصدرت جرائم الاحتيال المشهد الجرمي عامَّة والجرائم الواقعة على الأموال خاصَّة بزيادة (67%). وفي تقرير حديث كشفتْ شُرطة عُمان السُّلطانيَّة ـ ممثَّلةً في الإدارة العامَّة للتحريَّات والبحث الجنائي ـ نشرته وكالة الأنباء العُمانيَّة في حديث صحفي للوكالة مع العميد مدير عام الإدارة، كشفت عن ارتفاع جرائم الاحتيال الإلكتروني المرتكبة في سلطنة عُمان بنسبة (50%) خلال النصف الأول من عام 2025م، مقارنة بالفترة نفسها من العام 2024، وتُعَد محافظة مسقط الأعلى تسجيلًا في عدد قضايا الاحتيال.
إنَّ هذا الارتفاع في جرائم الاحتيال الإلكتروني باتَ أحَد أكثر منغِّصات ومقلقات الأمن الاجتماعي نظرًا لتعقُّدها وتطوُّر أدواتها وأساليبها ووسائل الاحتيال، وحجم البراعة والذَّكاء الَّذي يستخدمه الجناة في ارتكاب جريمة الاحتيال، إلَّا أنَّ ما يمنحنا درجة عالية من التفاؤل في التعامل الكفء مع الاحتيال الإلكتروني هو استكمال وجاهزيَّة البنية التشريعيَّة والمؤسَّسيَّة والتنظيميَّة الممكنة لجهات الاختصاص في التعامل مع أدق التفاصيل وأغرب أساليب الاحتيال الإلكتروني، وسواء كان ذلك في الفضاء الرقمي المفتوح أو كذلك في المواقف الفرديَّة اليوميَّة، فإنَّ التطور المتسارع في التقنيَّة الحديثة المتقدمة وأنظمة الدفع الإلكتروني، وانتشار استخدام المنصَّات الرقميَّة وزيادة مستوى التعامل معها في البيع والشراء أو الاشتراك في الحصول على خدمة أمنه ومستمرة وتحفظ حقوق المستخدم، رافقه بشكلٍ مباشر زيادة في الأساليب الجرميَّة الَّتي يبتكرها المحتالون بشكلٍ مستمر للإيقاع بضحاياهم باستخدام تقنيات متطورة، سواء كان على شكل مواقع مزيفة تدَّعي أنَّها طلبات رسميَّة من جهات حكوميَّة تطلب معلومات بنكيَّة أو رسوم مقابل تقديم الخدمة، أو عَبْرَ الرسائل أو المكالمات الَّتي تدَّعي أنَّ الحساب البنكي سيتم تجميده أو يحتاج لتحديث، والمطلوب توفير رقم الحساب أو معلومات البطاقات البنكيَّة، أو عروض قروض بنكيَّة ميسرة عَبْرَ وسائل التواصل الاجتماعي تدَّعي أنَّها من البنك المركزي العُماني، أو استخدام الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق، وتقنيَّات متقدمة لا تخطر على بال أحد لخداع مستخدمي الإنترنت بالترويج لخدمات عقاريَّة أو سياحيَّة أو غيرها من الأساليب الَّتي باتت تظهر كُلَّ يوم بأساليب جديدة وأنماط مبتكرة تتنكر بثوب التقوي والفضيلة، في حين تتلاعب بمشاعر الضحايا وثقتهم من أجلِ سرقة بياناتهم والاستيلاء على أموالهم، لقد تعدَّت جرائم الاحتيال البُعد الإلكتروني إلى استمرارها عَبْرَ المحافظ والشركات الوهميَّة في المجالات العقاريَّة والسياحيَّة، تديرها عصابات دوليَّة لها شبكات اتصال من الداخل والخارج في هذا الشأن.
إنَّ تداعيات ومخاطر الاحتيال الإلكتروني تتجاوز الحالة الفرديَّة إلى المُجتمع ثم المصالح الوطنيَّة العليا، إذ إنَّ اتساع الجريمة الاقتصاديَّة يهدد الاقتصاد الوطني والأمن الاجتماعي والاستقرار النفسي والاستثمار والإنتاج، حيثُ تُعَدُّ الجريمة الاقتصاديَّة من أهم العوامل السلبيَّة الَّتي تعوق جهود التَّنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وتقلل من فرص الاستثمار نظرًا لما تحتاجه نظريَّة الاستثمار من بيئة آمنة وقوانين محكمة تجمع بَيْنَ الإنتاجيَّة والمرونة والكفاءة والقوَّة الَّتي تضع حدًّا لهذه الثغرات والمقلقات، وتقف في وجه الاحتيال الإلكتروني والمحافظ الوهميَّة وغيرها، لذلك تنفق الدول اليوم الكثير من الأموال في سبيل تأمين منظومتها الماليَّة والاقتصاديَّة عَبْرَ تعزيز الأمن المعلوماتي والأمن السيبراني وموثوقيَّة الخدمات الإلكترونيَّة، بما من شأنه الحدّ من التأثير على استقرار الاستثمار، وطمأنينة أصحاب الأموال، ولعلَّ ما يدعو للقلق المستمر هو أنَّ الجريمة الاقتصاديَّة والواقعة على الأموال تسجل كُلَّ يوم تطورًا جديدًا في أنماطها، واستحداثًا في أساليبها، ومضاعفات في الخسائر الناجمة عنها، وذلك ما تؤكده الإحصاءات الَّتي أشرنا إلى بعضها، بل وظهرت لها أشكالها المعقدة، ممَّا تحذر منه شُرطة عُمان السُّلطانيَّة عَبْرَ موقعها الإلكتروني وحساباتها في المنصَّات الاجتماعيَّة ممَّا باتتْ تستخدمه العصابات الإجراميَّة مثل اختراق بطاقات السَّحب الآلي وسحب أموال وودائع عملاء بنوك تجاريَّة دون عِلم أصحابها، والاتصالات المشبوهة الَّتي تدَّعي الانتماء لمؤسَّسات حكوميَّة أو مصرفيَّة وتطلب معلومات حسَّاسة، والمواقع الإلكترونيَّة المزيفة الَّتي يتم تصميمها للإيقاع بالضحايا والَّتي تدار في الغالب من خارج سلطنة عُمان.
عَلَيْه يُمكِن قراءة استراتيجيَّات المواجهة في التعامل مع موجات الاحتيال الصارخة والصادمة في الآتي:
درجة الشفافيَّة والوضوح الَّتي تتعامل بها شُرطة عُمان السُّلطانيَّة مع جرائم الاحتيال الإلكتروني والصورة المباشرة والتفصيليَّة الَّتي تقدِّمها للمواطن والمُقِيم حَوْلَ المواقف والأحداث الحاصلة وتفاصيلها بحيثُ تصل إلى المواطن والمُقِيم بكُلِّ وضوح، سواء من خلال حسابات شُرطة عُمان السُّلطانيَّة عَبْرَ منصَّة (X) أو الإنستجرام أو غيره، أو في طريقة طرح هذا الموضوع بَيْنَ فترة وأُخرى وإطلاع المواطن على مستجداته بصورة فوريَّة بحيثُ يقف منها موقف الواعي المدرك لمخاطرها، والقادر على امتلاك الأدوات والمهارات والقدرات والأساليب الَّتي يواجه خلالها الخطر، ويمتنع عن تقديم أي تفاصيل يحتاجها الجناة حَوْلَ حساباته البنكيَّة وبطاقاته المصرفيَّة أو غيرها.
تعظيم الجهود الوقائيَّة وعَبْرَ تعزيز الإعلام الأمني والوقائي المتَّجه لرفع درجة الحسِّ الأمني لدى المواطن والمُقِيم بشأن التعامل مع حالات الاحتيال أو كذلك عَبْرَ تبنِّي برامج توعويَّة وتثقيفيَّة وبرامج حواريَّة وتسويقيَّة وتعريفيَّة في المدارس والجامعات والمؤسَّسات العامَّة والخاصَّة، تستهدف رفع مستوى الوعي لدى المواطنين والمُقِيمين بمفاهيم الاحتيال الإلكتروني وأساليبه وأنواعه وأنماطه، ووضع المواطن في صورة المستجدات الحاصلة لأنواع متخفية أو ظاهرة للاحتيال الإلكتروني وطريقة ممارستها وكيفيَّة اكتشافها والوقاية أو الحدّ منها.
تحديث وتطور القوانين والتشريعات النافذة في التعامل مع المستجدات والأساليب الحديثة، الَّتي يتم التعامل معها أو يستخدمها الجناة في الاحتيال الإلكتروني، الأمر الَّذي يضمن وجود تراكميَّة في المعلومات والفكر يرافقها تحديث في الوعي والفهم والشعور الجمعي بالمسؤوليَّة.
تفعيل دَوْر المراكز الوطنيَّة الداعمة، ومن ذلك المختبر الجنائي والمركز الوطني للسلامة المعلوماتيَّة، ومركز الدفاع الإلكتروني، وغيرها من المراكز في الكشف أو تعقب ورصد وتحليل الأساليب الجرميَّة الحديثة للاحتيال الإلكتروني، وتقوية الدفاعات المعلوماتيَّة الوطنيَّة في مواجهة هجمات الأمن السيبراني، وبشكلٍ خاصٍّ على البنوك والمؤسَّسات الماليَّة.
تعظيم الوعي الجمعي وخلق ثقافة مُجتمعيَّة سليمة وواعية ومدركة لخطر الاحتيال الإلكتروني وعَبْرَ رفع سقف الوقايَّة الاستباقيَّة في استشعار الخطر الناتج وتجنبه، وتعزيز اليقظة الفكريَّة والنفسيَّة للمواطن بعدم الرد على اتصالات غير المعروفة والمشبوهة، بالإضافة إلى توخي الحيطة والحذر عِندَ التعامل مع الإعلانات التجاريَّة والعروض والتخفيضات الوهميَّة عَبْرَ الإنترنت، وتجنب مشاركة البيانات البنكيَّة أو الشخصيَّة مع أيِّ جهة غير موثوقة، وتجنُّب استخدام البطاقة البنكيَّة الأساسيَّة في عمليَّات الشراء الإلكتروني.
ضمان امتلاك المواطن لجرعات توعويَّة وتثقفيَّة وأمنيَّة ووقائيَّة مناسبة تُعزِّز لدَيْه أساليب الوقاية وتبْني فيه اليقظة الأمنيَّة، بحيثُ تضع المواطن في صورة التغيُّرات والتحديثات الَّتي تتم على الشبكة والأنظمة والتطبيقات الماليَّة والخدميَّة للمؤسَّسات، بالإضافة إلى رفع درجة المسؤوليَّة الأخلاقيَّة وسريَّة البيانات والمعلومات للموظفين الوافدين في المؤسَّسات والدوائر ذات الصلة، والكشف عن أيِّ ممارسات فرديَّة غير منضبطة في هذا الشأن.
أخيرًا، فإنَّ حوادث الاحتيال الإلكتروني المعقَّدة الَّتي تعاملت معها شُرطة عُمان السُّلطانيَّة في الفترة الأخيرة بكُلِّ كفاءة واحترافيَّة ومهنيَّة تكتيكيَّة وأدائيَّة عالية، وقدَّمت خلالها نموذجًا عمليًّا محكم الأدوات متقن السيناريوهات إنَّما يعكس في دلالاته الجاهزيَّة الشُّرطيَّة والأمنيَّة، وفرادة الروح العالية والحِس الوطني والكفاءة الَّتي يمتلكها رجال شُرطة عُمان السُّلطانيَّة منتسبو الإدارة العامَّة للتحريَّات والبحث الجنائي والدَّعم والمساندة الَّتي تقوم بها الإدارات والوحدات الشُّرطيَّة وقيادات المحافظات، ومستوى التدريب والتأهيل والحدس والفراسة في التعامل مع التعقيدات، واكتشاف الثغرات وفك الخيوط والشفرات الخفيَّة لهذه الجرائم بأيادٍ وطنيَّة، وهي تقدم اليوم لكُلِّ مواطن غيور على عُمان برنامج عمل مؤطَّرًا ترصده العينُ السَّاهرة وترعاه الإرادة المخلِصة من منتسبي شُرطة عُمان السُّلطانيَّة حماة الحقِّ حرَّاس المبادئ وكُلّ القائمين على مواقع العمل والمسؤوليَّة.
د.رجب بن علي العويسي