يُشكِّل الاستقرار المالي الأساس الَّذي تُبنى عليه الثقة في أيِّ اقتصاد يسعى إلى التنويع والاستدامة، فهو الإيقاع الَّذي يمنح السوق توازنه والدَّولة قدرتها على الحركة الواعية في مواجهة المتغيرات.. فحين تتناغم السياسة الماليَّة مع أدوات النقد، تتكونُ بيئة ناضجة قادرة على تحويل الأرقام إلى قرارات تحدث أثرًا حقيقيًّا في حياة الناس. ففي التجربة العُمانيَّة، يبدو هذا التناغم واضحًا في الانضباط المالي الَّذي حافظ على استقرار الدَّوْرة النقديَّة، فجاء نُمو عرض النقد بنسبة (5.2%) ليؤكد أنَّ المنظومة الاقتصاديَّة تعمل بثقة وهدوء، والمال يتحرك في مسارات محسوبة تخدم الإنتاج وتدعم النشاط التجاري دُونَ أن تفتح الباب أمام التضخم، في صورة تجسِّد التوازن بَيْنَ الحذر والطموح. ويُعَدُّ هذا التوازن جوهر الفكر السامي الَّذي وجَّه منذ اللحظة الأولى لتولِّي جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ دفَّة القيادة نَحْوَ تصحيح المسار المالي للدولة عَبْرَ خطَّةٍ دقيقة لإعادة بناء الثقة وضبط الإنفاق، وهي الخطَّة الَّتي تؤكد المؤشرات اليوم أنَّها آتتْ أُكُلها وأعادت للاقتصاد قدرته على التنفس بثقة نَحْوَ المستقبل.
لقد تخطت الرؤية الشاملة للإصلاح المالي حدود الأرقام إلى عُمق التجربة اليوميَّة، فحين يبدأ التوازن من القمَّة تتغير طبائع المال في الشارع وتنعكس على سلوك الناس وثقتهم، ولعلَّ تراجع النقد لدى الجمهور وارتفاع الودائع تحت الطلب يعكسان انتقالًا حقيقيًّا في المزاج المالي، حيثُ بدأ المُجتمع يتعامل مع النظام المصرفي كجزء من طمأنينته لا كوسيلة لحفظ ماله فقط. فالناس صارت أكثر وعيًا بأنَّ حركة الريال داخل الاقتصاد تُشبه دوران الدم في الجسد، كُلَّما تحرك بانسياب ازداد الشعور بالحياة، لقد تحوَّل الإصلاح إلى ثقافة تتكونُ بصمت داخل سلوك الأفراد وتُعِيد تعريف العلاقة بَيْنَ الإنسان والنظام المالي، وأنا كأحَد المقيمين على هذه الأرض الطيبة لم أكُنْ أتخيل يومًا أن أتخلَّى عن النقد في معاملاتي اليوميَّة، إلَّا أنَّني وجدتُ نفسي أتعامل إلكترونيًّا أكثر من أيِّ وقت مضى، ولاحظت التغيُّر ذاته في الدائرة المحيطة بي، في الأسواق والمقاهي ومكاتب العمل، والتحوُّل أصبح حالة وعي جماعي تتسلل بهدوء إلى تفاصيل الحياة اليوميَّة، حتَّى صار التعامل الإلكتروني جزءًا من الإحساس العام بالثقة في الاتجاه الَّذي تسير فيه البلاد.
تتحرك السياسة النقديَّة بَيْنَ كبح التضخم وتخفيف كلفة التمويل بخطواتٍ محسوبة تحافظ على النشاط الاقتصادي، وتمنح السوق ثقة إضافيَّة، حيث تراجعت أسعار الفائدة على الودائع من (2.705٪) إلى (2.576٪)، وانخفضت فائدة القروض من (5.590٪) إلى (5.510٪)، وهبطت فائدة الإقراض بَيْنَ البنوك لليلة واحدة من (5.317٪) إلى (4.148٪)، كما تم تعديل فائدة عمليَّات إعادة الشراء من (6٪) إلى (5٪). هذه المؤشرات تعكس إدارة ماليَّة دقيقة حافظت على توازن السوق دون أن تقيّد حركته، ومن بَيْنِ كُلِّ تلك الأرقام، يظهر الإنسان كالمستفيد الأول؛ فكُلُّ نقطة فائدة تنخفض تعني دَينًا أخف على الأُسرة، ومشروعًا صغيرًا يُمكِن أن يبدأ بثقة، وتاجرًا يجد في السوق متنفسًا لمواصلة عمله، هذه التفاصيل الصغيرة تصنع الشعور العام بالاطمئنان، وتحوّل السياسات النقديَّة من معادلات جامدة إلى أدوات حياة. فالاقتصاد ـ من وجهة نظري الشخصيَّة ـ يَجِبُ أن يعيش في تفاصيل الناس اليوميَّة، في الأسواق والمنازل والطرقات، حيثُ تتحرك الثقة بهدوء كجزء من إيقاع الحياة لا كقرار مكتوب في التقارير.
أتحدَّث هنا عن الاقتصاد رغم أنِّي لستُ متخصصًا فيه، لكنِّي سعيتُ لمناقشة أهل التخصص لأفهمَ كيف نجحت السياسة النقديَّة في كبح مؤشرات التضخم الَّتي كانت تهدِّد السوق قَبل أعوام قليلة، وكانوا يشرحون لي أنَّ السيطرة على معدَّلات الفائدة بهذا الشكل الدقيق منعت ارتفاع الأسعار المفرط، وجعلت السيولة تتحرك بوعي داخل المنظومة الإنتاجيَّة، واستقرت الأسواق عند حدودها الآمنة، فانخفاض فائدة الإقراض بَيْنَ البنوك من (5.317٪) إلى (4.148٪) كان دليلًا واضحًا على انفراج السيولة، وتراجع الضغط على الأسعار، كما ساعدت سياسة إعادة الشراء عِندَ (5٪) في الحفاظ على هذا التوازن، عِندَها أدركتُ أنَّ الأرقام لا تبوح بأسرارها لِمَن يقرؤها من بعيد، وإنَّما لِمَن يربطها بحياة الناس. فالإصلاح المالي في جوهره حالة وعي بَيْنَ الدولة والمُجتمع حول معنى الثقة في إدارة الموارد، ومع هذا النضج المالي أصبح الاقتصاد الوطني يعكس استقرارًا حقيقيًّا يلمسه المواطن في تفاصيل يومه قبل أن يظهر في نشرات البنك المركزي.
إبراهيم بدوي