خصَّصت هذه الجريدة الغرَّاء (الوطن) موضوعها، في زاوية «رأي الوطن»، قَبل سنتين، لمناقشة «خطورة منصَّات التواصل الاجتماعي على الهُوِيَّة»، مهَّدت له بالتأكيد على أنَّ التعاطي «مع منصَّات التواصل الاجتماعي لم يَعُدْ أمرًا اختياريًّا في عالمنا المعاصر، بَلْ باتَ أمرًا ضروريًّا نسعى من خلاله إلى التعرُّف عن كثب عمَّا يدُور فيها»، وهو شرط أساس لمسايرة الركب الحضاري والإسهام في التقدم الإنساني، والضمانة والوقاية من الوقوع في شرَك توصيفنا وتصنيفنا تحت خانة التخلف والانكفاء والتراجع. ولا يُمكِن بأيِّ حالٍ من الأحوال كذلك، «منعُها أو غضُّ الطَّرف عن أهميَّتها، ودَوْرِها الَّذي يُمكِن أنْ تقومَ به في تعميق فرص الوعيِ لدى أجيال المستقبَل»، وتقديم المعلومة وتصحيحها، وتوسيع فضاءات المعرفة والتعلُّم والتثقيف وبثِّ رسائل التفاؤل، والحوار الإيجابي، والتجاوب مع طموحات وتطلُّعات الشَّباب، واستطلاع هموم ومشاكل المُجتمع وتيسير الإجراءات وتجويد الخدمات وتصحيح المفاهيم.. أهم عقبتين تواجه مستخدمي وسائل التواصل، وتقلِّل من تحقيق تلك الغايات النبيلة، يتمثلان وفقًا للرأي الَّذي نشرته «الوطن»، في «إصرار الأجيال السابقة في الأُسرة أو المُجتمع على التواصل مع الشَّباب بأدواتهم العتيقة، الَّتي لا يستطيع الشَّباب استيعابها في الوقت الحالي. وحالة التغريب المتعمَّدة الَّتي يأتي بها مَنْ يُسمَّون بنشطاء أو مشاهير التواصل الاجتماعيِّ»، بما تحتويه وتبثُّه من «أجندةً خطيرةً تسعى لفرض سِماتٍ مُعيَّنة على المُجتمعات المحافِظة»، بالإضافة إلى بثِّ الإشاعات وطرح الأفكار والدعوات المشوبة والمليئة برسائل وخِطابات التعصب والانحراف والتدليس والتسطيح والتضخيم والفِتن... والَّتي أصبحت آفةً من آفات وسائل التواصل، الَّتي تفيض بالغثِّ مقابل السَّمين. وفي مقال سابق لي، نشرته «الوطن»، كذلك، بعنوان «كورونا والمؤامرة»، ذكرتُ بأنَّ «أولئك المفتونين بالمؤامرة المنظِّرين لها، لا يقدِّمون حجَّة مبرّرة ولا دليلًا واقعيًّا ولا شرحًا مفصلًا مقنعًا، ولا يمتلكون ـ للأسف ـ المعلومة...» الدقيقة الَّتي تسند وجهات نظرهم وتثبتها، أو على الأقل تجعلها أكثر رجحانًا وقَبولًا، لدرجة أنَّ كُلَّ كارثة وجائحة ووباء ـ وإن كانت تُعبِّر عن سنَّة من سُنن الكَون وظاهرة طبيعيَّة ألِفَتها البشريَّة، ووثَّقتها كتُب التاريخ، وعرَفها الإنسان وتفاعَل وتكيَّف معها على مدى الأجيال والأزمان ـ برعت وسائل التواصل في تضخيمها فحوَّلتها وجعلت منها في نشاط مكثَّف وجهد حثيث، وتأثير واسع؛ باعتبارها «مؤامرة، فيتمُّ التسويق لها ومحاولة إثباتها بتشويه الحقائق واختلاق وتزوير آراء وتصريحات لباحثين وعلماء ومفكرين، لم يقولوها، وتمرير وإسقاط نصوص قديمة والتعديل فيها وتحويرها لتتناسب مع الفكرة». ومَن يختلق نظريَّات المؤامرة، ويتطوع لطرح وعرض التحليلات والآراء والأخبار السياسيَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة والصحيَّة والفتاوى الدينيَّة، ويقدِّم النصائح عن علاجات لأمراض خبيثة وخطيرة، ويحذِّر من الوصفات والأدوية الَّتي يصرفها الأطباء، رغم مخاطرها الجسيمة الصحيَّة والتشكيكيَّة... هم في معظمهم من البسطاء الَّذين لا يمتلكون تخصصًا علميًّا ولا خبرات عمليَّة، أو ممَّن يلهثون وراء الشهرة والوجاهة والترويج لأنفُسهم، أو من المخدوعين الَّذين تمَّ إغواؤهم، أو أعضاء وجزء من منظَّمات وأجهزة ودول وأحزاب وشركات لها أجنداتها ومقاصدها ومصالحها في بثِّ رسائل وأفكار وأخبار وتحليلات مختلقة ومصطنعة لبثِّ الفِتن والإشاعات والتعصب والتشكيك وخلخلة نسيج المُجتمعات والصَّيد في «الماء العكر»... فعندما تزلزلت الأرض في تركيا وسوريا ومراكش بالمغرب، في عام ٢٠٢٣م، هرفت وسائل التواصل بتحليلات وآراء وتنظيرات وتصريحات يقدِّم أصحابها أنفسهم بكونهم مفكرين ـ علماء متخصصين ـ باحثين ـ متنبئين.. ويدَّعون بأنَّ غايتهم تعميق الفَهْم والوعي وتقديم المعلومة الصحيحة، فتباينت وجهات نظرهم حَوْلَ الدوافع ومحركات ومنشطات هذه الزلازل. فمَن رآها حدثت بسبب «كميَّات المياه الهائلة المتدفقة من سد أتاتورك»، ومَن أفتى بأنَّها «عقوبات إلهيَّة بسبب كفر وإلحاد وتكبر وفساد وعصيان هذه المُجتمعات لخالق الكون عزَّ وجلَّ، ومنهم مَن أرجع سبب الزلزال التركي إلى تفجير نووي أسندت نظريَّتها إلى متنبئ هندي، وقدّمت تفسيرات وحجج وبراهين واهية لا يقبلها عقل مُدرك وواعٍ، بل وتسقط في فخ شراك قائليها من الوهلة الأولى، مثل أنَّ السفارات الغربيَّة رحَّلت موظفيها ورعاياها، وأغلقت مقرَّاتها قَبل وقوع الزلزال بأيَّام قليلة جدًّا، مع أنَّه وقَعَ في منطقة بعيدة عن أنقرة، والخبر من الأساس غير صحيح. والأغرب أنَّ الكثيرين يصدِّقونه، ويدافعون عنه... وفي السويد، وبعد كارثة هذا الزلزال، ظهر وسم تصدَّر منصَّات التواصل بعنوان «أين هو إلهكم الآن؟»، في تشفٍّ وثأرٍ بالمِحنة الإنسانيَّة، والأزمات الَّتي سبَّبها الزلزال، وذلك على وقع انعكاسات «تعطيل تركيا لانضمام السويد إلى حلف النَّاتو، وموقف حكومتها من حرق القرآن»، وقد عدَّ السويديون أنَّ «الله عاقب تركيا لمواقفها» من بلادهم، «وحقدها عليها بالزلزال». إنَّه لأمرٌ غريب فعلًا أن تستدرجَ وسائل التواصل البَشَر إلى هذا المستوى المنحدِر والمخجِل درجة التدخل في أسرار وشؤون الله وتسييره ـ عزَّ وجلَّ ـ لخَلقِه، والتحدث نيابة عنه، وكأنَّنا ندرك حكمته ونعي تدبيره، ونشارك في قراراته، ونُحدِّد مَن يعاقب ومَن يكافئ من عبيده، في كُلِّ حدَث وشأن وأمرٍ يحصل في هذه الدنيا، فأيُّ جنون وكسل فكري وضعف في الوعي نعيشه، وهو والله لأمرٌ جلَل وعمل شنيع أن نستثمر المآسي والكوارث الَّتي قدَّرها ربُّنا في التشفِّي والتحليل والحُكم على الغايات والمقاصد، ونبثُّ الفِتن والكراهية والشحناء بَيْنَ الأديان والأعراق والمُجتمعات، والخوف والرُّعب في الناس؟ ومَن الَّذي يتولى ذلك ويتصدَّر التحليل في وسائل التواصل؟ إنَّهم بضعة أفراد لا يفقهون شيئًا وليسوا متخصصين في القضايا الَّتي يتحدثون عنها ويصدرون الأحكام حَوْلَها. في فضاء وسائل التواصل تُنتهك أخلاقيَّات المُجتمعات وخصوصيَّات الأُسر ويتمُّ العبث بها، وتُخترق الحسابات بأنواعها والتنصُّت على المحادثات، والتَّلاعب بالعقول والنُّفوس والأصوات والصوَر وإطلاق التهديدات، واختلاس الأموال بطُرق وأساليب وحِيَل لا حصر لها، وفي كُلِّ يوم تُبتدع وسائط واختراعات وابتكارات جديدة للاحتيال على ملايين البسطاء حَوْلَ العالم الَّذين يقعون في الشراك، رغم التنبيهات والبرامج التوعويَّة والتجارب والقصص المريرة الَّتي يحتشد بها الفضاء الإلكتروني. وفي وسائل التواصل يحدُث بكُلِّ تنمُّر وشراسة ترهيب الرأي المخالف ومحاولة التضييق على الحُريَّات.. ففي هذا الفضاء المهيمِن والمتطوِّر والنَّامي بسرعات هائلة، تصل الأفكار والآراء والأخبار ومقاطع الفيديو والصوَر والرسائل وكُلُّ ما يُنشر إلى معظم النَّاس في بقاع العالم. في هذا الفضاء تشتعل وتحتدم المعارك بَيْنَ الدول والشعوب والمدارس والمذاهب والأفكار والتوجُّهات، ويتنمَّر الأقوياء على الضعفاء، وينشُر المُلحِدون والشَّواذ والمنحرِفون والمرتزقة أفكارهم الضَّالَّة والفاسدة والشَّاذَّة، ويبرع اللُّصوص وقطَّاع الطُّرق والفاسدون في انتزاع وسَحْب الريالات من حسابات المصارف وجيوب أصحابها من حيثُ حسبوا واطمأنوا أنَّها في مأمن... ومع ذلك أصبحت وسائل التواصل جزءًا أساسًا مهيمنًا لا غنى عنه البتَّة في تسيير حياتنا، وتحقيق أهدافنا وإنجاز أعمالنا، وتزويدنا بالمعلومة والأخبار، كما جاء في رأي «الوطن»، ولا علاج من الشرور والمضار المصاحبة له سوى الحذر واليقظة قَبل الغفلة، وتعميق الوعي والفهم والثقيف...
سعود بن علي الحارثي