الحديث عن الصحَّة النفسيَّة للموظف والمُجتمع الوظيفي في المؤسَّسات لم تَعُدْ ترفًا فكريًّا، بل ضرورة يحتِّمها واقع العمل المؤسَّسي وطبيعة التحولات في المورد البشري واهتماماته وطموحاته، وطبيعة الوظيفة العامَّة وبيئة العمل المتغيرة، وتنوع المستجدات والمفاهيم والمفردات الإداريَّة والتنظيميَّة الَّتي جادت بها رؤية «عُمان 2040» وأدخلت على الوظيفة العامَّة والمُجتمع الوظيفي مثل: الحوكمة والابتكار الوظيفي وقياس الأداء الفردي والمؤسَّسي، بحيثُ تضع المؤسَّسات لها الضوابط والأُسس والاستراتيجيَّات، وتبني في سبيل تحقيقها أساليب توافقيَّة تَضْمن إدماج الموظف في مُجتمع المؤسَّسة، واستيعابه للبيئة الداخليَّة والخارجيَّة وقدرته على التعايش معها فكريًّا ونفسيًّا ومهنيًّا ووظيفيًّا، والبحث عن أُطر تنظيميَّة ترتقي بمبادئ الذوق الرفيع وفلسفة العمل المسؤول، ومهنيَّة الإدارة وتجديد الخطاب المؤسَّسي وتعظيم مشاعر الودِّ والرحمة والاحترام المتبادل في حركة التفاعلات اليوميَّة ومنطوق الخطاب والعلاقات، وأنظمة الاتصال والتواصل ونتائج الاجتماعات، وتنويع أساليب التَّوجيه، وآليَّة التعامل مع المواقف، وتعميق جوانب الحوار، وشعور الموظف بأنَّه في مؤسَّسة تحترم مشاعره، وتقدِّر أفكاره، وتأخذ بتقدُّمه، وتشركه في قراراتها ولقاءاتها وأنظمة عملها، متفاعل مع متطلبات التنفيذ، يجد لممارسته ونجاحاته الاهتمام والمتابعة، ويصنع من وجوده في مؤسَّسته أثرًا إيجابيًّا وفرصة لخدمة مؤسَّسته بأفضل الطرق وأنجع الأساليب.
وعندما تبني المؤسَّسات للصحة النفسيَّة أُطرها التنظيميَّة والتشريعيَّة وموقعها في الممارسة اليوميَّة، وتضع الجميع أمام مسؤوليَّة تحقيق الصحة النفسيَّة في مهام عمله وتنفيذ مسؤوليَّاته والقيام بواجباته وخيوط التواصل والاتصال الَّتي يرسمها مع المستويات الإداريَّة الأخرى، ويصبح الاسم الداخلي والاحتواء في المشاعر الثقة والإيمان بمبدأ التعاون واستحضار الرضا والقناعة، وتجديد الأدوات والآليات والطموحات، وتعظيم مشاعر الودِّ والاحترام والعلاقات الإنسانيَّة والإنجاز النوعي والبناء على المشتركات لتصبح موجِّهات أصيلة لا ترتبط بمزاجيَّة الاختيار، بل بالشعور الجمعي بأنَّ تحقيق ذلكم أمر صحي وفطري تُعزِّز الأُطر وتحافظ عليه الضوابط وتصقله التجارب وتبنيه الفرص، عندها تصبح العمليَّات الداخليَّة بالمؤسَّسة متَّجهة نَحْوَ تحقيق الأمان النفسي، والرضا الوظيفي وبناء الدوافع وترقية مشاعر العمل، وتقليل عوامل التوتر والقلق، كما تقل الهدر الناتج عن التكراريَّة وفاقد العمليَّات الإداريَّة الَّتي تسبب حالة من التراجع في الأداء عندما تفتقر لفرص الاستماع والإنصات والاستمتاع بالمهام والمسؤوليَّات والاحتواء، لتضع الصحة النفسيَّة بصمتها الَّتي تمنح المؤسَّسة قوَّة وسعيًا نَحْوَ مواصلة الإنجاز، وتبني الكلمة الطيبة المعززة بالحكمة والذوق والاحترام والتقدير والاهتمام، والعدالة، والتنوع والابتكاريَّة في برامج التثقيف وإدارة الذَّات والتعامل مع الصدمات، وتهيئة الأفراد في المواقف، واعتماد لُغة حواريَّة متقاربة تضمن تعميق روح المحبَّة، وتقريب لُغة التواصل المؤسَّسي، واحتضان المواهب وإدارة فرص التغيير، تبني مرتكزات لنمو صحة المؤسَّسات وقدرتها على استيعاب تحوُّلات الواقع.
إنَّ الصحة النفسيَّة بذلك جملة من المعايير الَّتي تلتزم بها المؤسَّسة في بيئة العمل وتحققها في حياة الموظف بالشكل الَّذي يضمن لجهودها التأثير والفاعليَّة والتحوُّل الإيجابي عَبْرَ وجود حالة مستدامة من الذكاء الوجداني والعاطفي، والاستقرار الفكري والنفسي والاجتماعي المؤسَّسي والتنظيمي المعزز بكفاءة الخطط ووضوح المنهجيَّات وأُطر العمل وتفاعلها مع الاحتياج المؤسَّسي والآمال والطموحات الفرديَّة والمُجتمعيَّة الَّتي يراد من المؤسَّسة تحقيقها، وبالتالي ضمان وجود حالة اعتياديَّة مبتكره يستطيع خلالها الموظف التكيُّف مع طبيعة التحوُّل في منظومة الأداء واستراتيجيَّات العمل وجوانب التطوير، وبناء روح متجددة تُعزِّز من رغبته في الأداء ودافعيَّته نَحْوَ الالتزام، عَبْرَ الاستفادة من الفرص وتوظيفها في تحقيق متعة الإنجاز، وعندها يصبح وجود نظام وطني للصحة النفسيَّة، أولويَّة وطنيَّة يَجِبُ أن تدرك في بيئة العمل وأساليب التعامل ومنظومة الأداء ومنطوق الخطاب، تجسِّده مسارات واضحة في أساليب العمل وأدواته يستطيع خلالها الموظف التكيُّف مع طبيعة التحوُّل في الأداء واستراتيجيَّاته وجوانب التطوير، وبناء روح متجددة تُعزِّز من رغبته في المبادرة ودافعيَّته نَحْوَ الالتزام، وتقليل جانب السلبيَّة والحساسيَّة المفرطة الناتجة من ازدواجيَّة المعايير وغياب العدالة، وتكريس لُغة الفردانيَّة والفوقيَّة وشخصنة الأحداث والمواقف، لتتعدى هذه الهواجس الشخصيَّة إلى مرحلة متقدمة من الاندماج وصناعة الأثر شريك في قرارات المؤسَّسة ولقاءاتها وأنظمة عملها، متفاعل مع متطلبات التنفيذ، يجد الاهتمام والمتابعة.
إنَّ تأطير الممارسة الجمعيَّة للصحة النفسيَّة كاستراتيجيَّة حياة في بيئة مؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة تُعزِّزها التشريعات وتضبطها أنظمة العمل وقانون الوظيفة العامَّة، وفْقَ مؤشِّرات تقييم واضحة وأدوات مقنّنة ومنهجيَّات محكمة للرصد والتشخيص والتقييم والمتابعة وإيجاد اختبارات للقياس تحدد جوانب التقدم الحاصل ونوعيَّة البرامج الَّتي تحتاجها المؤسَّسات في سبيل تأصيل الصحة النفسيَّة في سلوك الموظفين؛ الطريق لتحقيق الاستدامة، والانتقال بالصحة النفسيَّة من التفكير والتنظير إلى التطبيق وميادين الممارسة، الأمر الَّذي سيشكِّل نقلة نوعيَّة في تغيير القناعات السلبيَّة الَّتي باتت تتولد لدى الموظفين في ظلِّ معطيات الحالة الماليَّة للمؤسَّسات الناتجة عن حالة التراجع وعدم الانضباط في استمراريَّة الترقيات والمكافآت والَّتي تستدعي امتلاك المؤسَّسات لسيناريوهات عمل بديلة لضمان الاستقرار الوظيفي بما يُقلِّل من التأثير السلبي لها على الموظف ومستويات إنتاجه، وبالتالي تحريك الفرص الخاملة في المؤسَّسة وإعادة إنتاجها وحضورها عَبْرَ إعادة الهيبة للصحة النفسيَّة للموظف وتأطير تفاصيلها وتمكين العمليَّات التواصليَّة والاتصاليَّة الداخليَّة والمهنيَّة المعززة بالحكمة والذَّوق والاحترام والتقدير والاهتمام والعدالة المؤسَّسيَّة، والتعامل مع الصدمات وتهيئة الموظفين في المواقف، والرسائل الإيجابيَّة الَّتي تبثُّ للموظفين عَبْرَ وسائط الإعلام المختلفة، والتجديد والبدائل والفرص والامتيازات الَّتي تصنعها بَيْنَ فترة وأخرى، وتقريب لُغة التواصل واللقاءات الاجتماعيَّة مع القيادات العليا بالمؤسَّسات واحتضان المواهب، والتكريمات السنويَّة ورسائل الشكر والتقدير والاعتراف بالمنجز الفردي واحترامه والاهتمام بالقدوات والنماذج، محدِّدات مهمَّة يستشعر فيها الموظف موقعه في منظومة العمل، وبأنَّه يعمل في مؤسَّسة تحترم الخبرة وتنهض بالفكر وتسمو بالإبداع، وتبني منصَّات الحوار، وتتيح فرصًا أكبر لأن تصل رسالة المؤسَّسة إلى الجميع فينال خلالها حق استحقاق خدمتها والوفاء لها.
عليه، تبقى الصحة النفسيَّة للموظف في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة، معادلة التوازن لصناعة الإنتاجيَّة والالتزام، لبناء مواطن منتج واعٍ بما حَوْله، مدرك لواقعه يمتلك الممكنات الَّتي تساعده في تجاوز الظروف الصعبة والمسارات الضيقة والتراكمات السلبيَّة والقناعات غير السارَّة وحالة الإحباط واليأس الَّتي ترتبط بالسلوك الوظيفي وحركة التفاعلات غير المنضبطة الَّتي قد تحصل في بيئة العمل، والاستفادة أو التثمير في كُلِّ الفرص المتاحة في المؤسَّسة من أجل ضمان احتواء الوظف وتسهيل كُلِّ المصاعب والتحديات الَّتي تعرقل سَير أدائه أو تقف حجر عثرة في سبيل توظيف مهاراته وقدراته لخدمة المؤسَّسة والمُجتمع، فهو صاحب رسالة عليه أن يبلغها أهدافها بكُلِّ أريحيَّة وهو مكلَّف بأداء مهمَّة عليه أن يتعامل معها بأمانة ويرد جميلها باحترافيَّة ومهنيَّة تعلوها سِمة الاحترام والوفاء والاحترافيَّة والابتكاريَّة، وعندها تصبح الصحة النفسيَّة إطارًا يحتوي كُلَّ التفاعلات والأفكار الَّتي تضمُّها شخصيَّته، فتستخلص منها مساحات الإيجابيَّة والتفاؤل وتزيل منها العوائق والشوائب، فيضبطها بضابط الخلق الذَّاتي منطلقًا من الممكنات والفرص الَّتي أتاحتها المؤسَّسة له، وعندها يصبح السلوك الناتج عن الصحة النفسية فرصة لالتقاط الأنفاس وتغيير العادات والممارسات الروتينيَّة واستبدالها بمسارات مبتكرة وعادات إنتاجيَّة رصينة، إذ كُلَّما زاد مستوى الصحة النفسيَّة لدى الموظف في مستوياتها المناسبة انعكس ذلك إيجابًا على ولائه للمؤسَّسة وانتمائه للوطن الأُم، وزاد شعوره بقِيمة الإنتاجيَّة وتوظيف مهاراته، إذ يشعر بإيجابيَّة وثقة وحُب للعمل ورغبة في المنافسة، فالصحة النفسيَّة إطار يحافظ على التوازنات في شخصيَّة الموظف الفكريَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والوظيفيَّة، يحوي كُلَّ التفاعلات والأفكار الَّتي تضمها شخصيَّة الموظف فتستخلص منها مواقف الخيريَّة والإيجابيَّة والتفاؤل، وتزيل منها العوائق والشوائب الَّتي تؤثر على الإنتاجيَّة، فيتَّجه إلى الإنجاز والمبادرة والالتزام والأمانة الوظيفيَّة بشغف ورغبة وتلهف وقناعة وثقة.
أخيرًا، نحن بحاجة اليوم إلى مراجعة جادَّة لممارساتنا المؤسَّسيَّة وتقييم مدى اقترابها وابتعادها عن مسار تحقيق الصحة النفسيَّة، والتفكير المنظَّم عَبْرَ قرارات واضحة ومسارات نوعيَّة في الانتقال بمفاهيم الصحة النفسيَّة إلى مماسة حياتيَّة يوميَّة في بيئة العمل والوظائف والمهام بمؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة تَضْمن احتواء الكفاءة الوطنيَّة وتعظيم إنسانيَّة الوظيفة العامَّة وترقية أدوات التعامل مع الموظف وحمايته وتمكينه.
د.رجب بن علي العويسي