يُشكِّل التوجُّه نَحْوَ اللامركزيَّة الَّذي أرساه حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ ركيزة استراتيجيَّة في بناء الاقتصاد الوطني الحديث، حيثُ تتوسع التَّنمية بخُطًى متوازنة لِتشملَ مختلف المحافظات ضمن رؤية شاملة تُعِيد توزيع النشاط الاقتصادي وفْقَ المزايا النسبيَّة لكُلِّ محافظة، وجاء إنشاء المنطقتين الاقتصاديتين في عبري والروضة بموجِب المرسومين السُّلطانيَّين رقمي (87/2025) و(88/2025) تأكيدًا عمليًّا لهذا النَّهج، إذ يترجم القرار الإرادة السَّامية في تحويل اللامركزيَّة من فكرة تنظيميَّة إلى مشروع سيادي يُعزِّز حضور الدولة في كُلِّ مساحة من أرضها، ممَّا تُعَبِّر هذه الخطوة عن مرحلة جديدة من التخطيط التنموي القائم على المشاركة، بحيثُ تمتلك كُلُّ محافظة أدواتها للنُّمو وتتكامل جهودها مع باقي المحافظات في تحقيق العدالة الاقتصاديَّة وتعميق مفهوم التَّنمية الشاملة، وفْقَ رؤية «عُمان ٢٠٤٠» الطموحة.
ويأتي إنشاء المنطقتين الاقتصاديتين امتدادًا مباشرًا لنهج الدولة في تعزيز اللامركزيَّة الإنتاجيَّة، حيثُ تتحول المحافظات إلى أقطاب تنمويَّة قادرة على جذب الاستثمارات، وتوليد الفرص ضمن بيئات اقتصاديَّة متكاملة، ويعكس هذا التوجُّه وعيًا مؤسَّسيًا متقدِّمًا يرى في توزيع النشاط الاقتصادي ضمانة للاستقرار ونُموًّا يظهر التنوع الجغرافي والاجتماعي للبلاد. فعبري ـ بما تمتلكه من موارد معدنيَّة وموقع استراتيجي يربط الداخل بالساحل ـ مؤهلة لِتكُونَ مركزًا محوريًّا للصناعات التحويليَّة والطاقة، بَيْنَما تهيئ الروضة بوَّابتها الحدوديَّة لِتكُونَ محورًا للتجارة والخدمات اللوجستيَّة العابرة للأسواق الخليجيَّة، ويُمثِّل هذا التحوُّل نقلة في مفهوم التَّنمية من تمركزٍ حَوْلَ العاصمة إلى شبكة متصلة من المحافظات المنتجة، تتبادل الأدوار وتتكامل في بناء الاقتصاد الوطني، ومع تهيئة البنية التشريعيَّة والتنظيميَّة الحديثة، تتوسع فرص الاستثمار النَّوعي وتتعمق الشراكات مع القِطاع الخاص، بما يُعزِّز مكانة سلطنة عُمان كوجهة مستقرة ومفتوحة أمام المشاريع الإقليميَّة والدوليَّة الباحثة عن بيئة آمِنة ومستدامة للنُّمو.
ولعلَّ أهمَّ ما يمنح هذا التوجُّه قوَّته هو الحضور المتنامي للقِطاع الخاص في مسار التَّنمية الوطنيَّة، بوصفه الشريك الأقدر على تحويل الرؤية إلى فعل اقتصادي ملموس، فمرحلة اللامركزيَّة تتطلب قِطاعًا خاصًّا يمتلك روح المبادرة وقدرة التنفيذ، وغرفة تجارة وصناعة عُمان تُمثِّل في هذا السياق محورًا فاعلًا لربط السياسات بالواقع العملي من خلال فروعها في المحافظات الَّتي أصبحت جزءًا من منظومة القرار الاقتصادي المحلي، ومن خلال المنطقتين الاقتصاديتين في عبري والروضة، تتاح أمام روَّاد الأعمال مساحات أوسع لتأسيس مشروعات نوعيَّة قادرة على خلق قيمة حقيقيَّة ضمن سلاسل إنتاج متكاملة، ما يُعزِّز فرص العمل ويقوِّي الروابط بَيْنَ المحافظات في دَوْرة اقتصاديَّة موحَّدة. كما تُسهم هذه المشاركة في رفع كفاءة الأسواق المحليَّة، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وتفتح الباب أمام شراكات إقليميَّة تُعزِّز حضور البلاد في سلاسل الإمداد العالميَّة، فهذه المشاركة الواسعة تكرِّس مفهوم التَّنمية التشاركيَّة، وتحوِّل القِطاع الخاص من متلقٍّ للمبادرات إلى صانعٍ لها، وهنا يترسخ دَوْره كركيزة ثابتة في البناء الاقتصادي لعُمان الحديثة. إنَّ هذا التحوُّل في فلسفة التَّنمية يعكس وعيًا متجددًا ببناء الدولة الحديثة، حيثُ تتكامل الجغرافيا والاقتصاد والإنسان في مشروع واحد يُعيد تعريف مفهوم القوَّة الوطنيَّة. فاللامركزيَّة الَّتي تتجسد اليوم في عبري والروضة تؤكد أنَّ التَّنمية تجاوزت حدود المكان إلى آفاق الفكر والإدارة، لِتصبحَ مسؤوليَّة يتقاسمها الجميع في إطار من الثقة والوعي والشراكة، ومع اتساع رقعة التَّنمية وتوزع مراكز النشاط، تتعزز مرونة الاقتصاد الوطني وقدرته على التكيُّف مع المتغيرات الإقليميَّة والعالميَّة، وتتعمق في الوقت نفسه قاعدة التنويع الاقتصادي الَّتي تسعى الدولة لترسيخها كضمانة للاستدامة والاستقلال المالي، وهنا يتجلى النهج السَّامي في تحويل التَّنمية إلى فعل وطني جامع يصنع التوازن بَيْنَ المركز والأطراف، ويجعل من اللامركزيَّة مسارًا لترسيخ الاستقرار والسيادة الاقتصاديَّة، وإضافة راسخة لمَسيرة نهضتها المتجدِّدة بقيادة جلالة السُّلطان المُعظَّم ـ أبقاه الله ـ.