حين نتأمل التجربة الهندية، نكتشف أن سر قوتها لم يكن في عدد سكانها الهائل، ولا في اتساع جغرافيتها فقط، بل في منظومة قيم عميقة صاغت هوية شعبها: العمل المتفاني، الصمت الواعي، والسلام كخيار إنساني.
هذه الثلاثية لم تكن مجرد فضائل فردية، بل كانت محركًا تاريخيًّا جعل الهند تتحرر من الاستعمار البريطاني، وتنهض كقوة اقتصادية وعلمية وحتى نووية في صمت مدهش، الهندي العادي يرى في عمله عبادة ورسالة، لا مجرد وسيلة للعيش، الفلسفة الهندية القديمة، التي تعكسها مفاهيم مثل «العمل كطريق للتحرر»، تربط بين الجهد والإبداع من جهة، وبين السمو الروحي من جهة أخرى.
هذا المزيج جعل العامل الهندي نموذجًا للانضباط والإنتاج، خلال الحقبة الاستعمارية، لم يكن العمل مجرد نشاط اقتصادي، بل شكل من أشكال المقاومة الصامتة، حيث واصل الهنود زراعة أرضهم، وحياكة ملابسهم يدويًّا، وصناعة أدواتهم، رافضين الاعتماد على السلع البريطانية.
وقد تحولت هذه الروح العملية لاحقًا إلى قاعدة لانطلاق الهند نحو التكنولوجيا والبرمجيات والطب والتعليم، حتى أصبحت تُعرف عالميًّا بأنها «عاصمة العقول المهاجرة» التي تسهم في بناء اقتصاد المعرفة.
في الثقافة الهندية، الصمت ليس غيابًا للكلام بل حضورًا للوعي. هذا البعد الروحي تحوّل في التجربة السياسية إلى سلاح مقاومة. المهاتما غاندي لم يواجه الاستعمار البريطاني بالسلاح، بل بثورة الصمت واللاعنف، كانت المسيرات السلمية، والصوم، والجلوس في صمت أمام جنود الاحتلال، أقوى من أي رصاصة. لقد علم غاندي العالم أن الصمت يمكن أن يهزم الإمبراطوريات.
وبعد الاستقلال، واصلت الهند هذا النهج في بناء قوتها، فبينما كان العالم منشغلًا بالسباقات العسكرية المعلنة، بنت الهند قوتها النووية في صمت، بعيدًا عن الضجيج، حتى أعلنت عن نفسها قوة نووية في عام 1974، مدهشة الجميع بقدرتها على الجمع بين الفلسفة السلمية والقدرة الردعية. السلام في الهند ليس شعارًا سياسيًّا عابرًا، بل فلسفة حياة، من رحم التنوع الديني والثقافي ـ الهندوس والمسلمون والمسيحيون والسيخ ـ انبثقت ثقافة التعايش. ومن رحم المعاناة مع الاستعمار، وُلدت فلسفة اللاعنف التي جعلت من الهند مثالًا عالميًّا في التحرر السلمي، لكن السلام لم يمنعها من إدراك ضرورة القوة، فاللاعنف لم يكن ضعفًا، بل حكمة، والصمت لم يكن استسلامًا بل تخطيطًا، والبساطة لم تكن فقرًا بل اختيارًا. ولهذا، نجحت الهند في أن تكون في الوقت ذاته بلد غاندي صاحب فلسفة السلام، وبلد عبدالكلام «أبو القنبلة النووية الهندية». الهند تعلمنا درسًا عميقًا: أن الشعوب القادرة على الجمع بين العمل المنتج، والصمت كقوة داخلية واستراتيجية، والسلام كخيار فلسفي، هي شعوب قادرة على صنع التاريخ، فقد تحررت الهند بلا سلاح من أعظم إمبراطورية عرفها العالم، ثم بنت في صمت قوتها الاقتصادية والعلمية والنووية، لتصبح اليوم لاعبًا رئيسًا في الساحة الدولية، إنها معادلة فريدة: العمل يحرر، الصمت يبني، والسلام يحمي.
د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية