الذكرى الثانية والخمسين لمعركة العبور العظيمة الَّتي حدثت في أكتوبر ١٩٧٣م لا شك هي ذكرى عزيزة على قلب كُلِّ عربي بتحقيق أهمِّ انتصار عربي رسمي على الكيان الصهيوني في العصر الحديث، والَّذي نسفَ أسطورة الجيش الَّذي لا يُقهَر، وهي حرب عربيَّة مشتركة على جبهتين: الأولى قناة السويس المصريَّة، والأخرى هي هضبة الجولان السوريَّة، وبتنسيق مشترك بَيْنَ القوَّات المسلحة في البلدين العربيين جمهوريَّة مصر العربيَّة والجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة. ونحن إذ نعيش هذه الأيَّام الخالدة في الذاكرة العربيَّة لا يسعنا إلَّا أن نتقدم بالتهنئة للأُمَّة العربيَّة، وبالأخص الشَّعبين العربيين المصري والسوري، ونسأل الله الرحمة لأولئك الشهداء الَّذين ضحوا بأرواحهم في سبيل التحرير واستعادة الأراضي العربيَّة المُحتلَّة. ورغم الظروف الَّتي سادت تلك الحرب إلَّا أنَّ ما تحقق فيها يُعَدُّ نجاحًا يُحسب لهذه الجيوش العربيَّة ولهذه الأُمَّة، ورغم بعض التحفظ العربي على النتيجة النهائيَّة للحرب إلَّا أنَّها أهم الأهداف باستعادة قناة السويس وجزء من أراضي سيناء واستعادة مدينة القنيطرة، وجزء من هضبة الجولان السوريَّة، وتحقيق العبور العظيم الَّذي هزّ كيان العدوِّ، وأكَّد له أنَّ الأُمَّة العربيَّة متى ما اتَّحدت قواها فإنَّها قادرة على تحقيق النصر، وكذلك من المنجزات وحدة الموقف العربي واستخدام سلاح النفط في المقاطعة العربيَّة للدول الداعمة للكيان الصهيوني، وهي نتائج ـ بلا شك ـ عظيمة سجلت في التاريخ بأحْرُف من ذهب. ورغم الحديث عن تقلُّص حجم النصر في المرحلة اللاحقة من الحرب، إلَّا أنَّ العدوَّ لم يُحققْ أيَّ نجاحات استراتيجيَّة، وانتهت الحرب بقرار وقف إطلاق النار على خط الهدنة، واستمر القتال على الجبهة السوريَّة ثم صدر القرار (٣٣٨) من مجلس الأمن بتوقف جميع الأعمال الحربيَّة، وتم توقيع اتفاق فض الاشتباك في يونيو ١٩٧٤م.
بدأت الحرب الساعة الثانية بعد ظهر يوم الـ(٦) من أكتوبر، وحققت القوَّات على الجبهتين المصريَّة والسوريَّة العديد من مبادئ الحرب، ما قدَّم ملحمة أسطوريَّة في الأيَّام الثلاثة الأولى من الحرب، وأهم تلك المبادئ هي المفاجأة الَّتي تحققت من خلال اختيار التوقيت المثالي يوم السبت في عيد الغفران لدى اليهود واشتراك القوَّات المصريَّة والسوريَّة في نفس التوقيت، فاستطاعت القوَّات المصريَّة أن تنفذَ عبور القناة إلى الضفَّة الشرقيَّة وتجاوز كُلِّ خطوط الإعاقة والموانع الطبيعيَّة والصناعيَّة مثل المانع المائي المتمثل بقناة السويس وسد فتحات النابالم الحارقة، واجتياز أسطورة خط بارليف وتدمير المانع المتمثل في التحصينات والقوَّات المدرعة أو ما سُمي بالنقاط الحصينة، وهذا بحدِّ ذاته يُعَدُّ إنجازًا عسكريًّا عظيمًا يُحسب للقوَّات المصريَّة، وكذلك على الجبهة السوريَّة حيثُ وصلت القوَّات السوريَّة إلى جبل الشيخ، ما جعل القيادة «الإسرائيليَّة» في وضعٍ لا تُحسد عليه. هنا اجتمع السفير «الإسرائيلي» مع وزير الخارجيَّة الأميركي في البيت الأبيض لإطلاعه على آخر مستجدَّات الحرب والَّتي كانت تُنذر بكارثة كبرى على كيان الاحتلال، فقد بلغت الخسائر في ظرف (٣) أيَّام أرقامًا مهولة حيثُ تم تدمير (٥٠٠) دبابة للعدوِّ، منها (٤٠٠) على الجبهة المصريَّة، وعدد كبير من الطائرات، والسيطرة على المنطقة بعُمق (١٢) كيلومترًا شرق القناة، وفشل الهجومات المضادَّة الَّتي تبعت مرحلة العبور من قِبل قوَّات العدوِّ، كذلك سيطرة القوَّات السوريَّة على مساحات كبيرة، والحديث هنا عن الأيَّام الأولى للحرب الَّتي تَحقق فيها النصر الفعلي للقوَّات العربيَّة، كذلك تَحقق للقوَّات العربيَّة مبدأ الأمن من حيثُ المعلومات الدقيقة الَّتي توافرت عن إمكانات العدوِّ ومعرفة الأرض جيدًا، وخطَّة الخداع والتَّمويه الَّتي نفذت قَبل الحرب، ومن المبادئ الرئيسة الَّتي حققتها القوَّات العربيَّة المشتركة مبدأ المبادأة والاحتفاظ بهذا المبدأ خلال الأيَّام الأولى وذلك من خلال اتِّخاذ قرار الحرب، ومباغتة القوَّات المعادية واستمرار عنصر المبادأة بعبور (٦٠) ألف مقاتل مصري إلى الضفَّة الأخرى من القناة في ظرف وجيز، وفتح الثغرات في السَّاتر الترابي بطريقة عبقريَّة من قِبل ضابط في سلاح المهندسين عن طريق خراطيم المياه، وكذلك استمر عنصر المبادأة بإعطاء الصلاحيَّات للقادة في مختلف المستويات حُريَّة اتِّخاذ القرار، حسب ما يتطلبه الموقف، كما سجل التعاون والتنسيق المشترك بَيْنَ مختلف الأسلحة دَوْرًا كبيرًا في تلك المعركة، إضافة إلى مبدأ حشد القوَّات الَّذي تَحقق لتلك المعركة بحشد أكثر من مئتي طائرة وما يقرب من (١٠) فِرق متنوعة بَيْنَ مشاة وميكانيكيَّة ومدرَّعة على الجبهة المصريَّة، مع إنشاء رؤوس الجسور على الضفَّة الشرقيَّة للقناة و(2000) مدفع وشبكة دفاع جوِّي، وقامت القوَّات البحريَّة بإغلاق باب المندب أمام القِطع المعادية، وعلى الجبهة السوريَّة تم حشد القوَّات بما يُلبِّي خطط الحرب، واستمر عنصر المبادأة وتقدَّمت القوَّات السوريَّة واستعادت مساحات كبيرة.
رغم ما حدَث بعد الأيَّام الثلاثة الأولى من الحرب ومعركة العبور العظيمة والتفوق السوري الَّذي حدَث في بداية الحرب، إلَّا أنَّ ما حدَث لاحقًا يُمثِّل تغيُّرًا جذريًّا في خطِّ سير المعارك. ويعزو الكثير من المراقبين استخدام السادات لقرار تطوير القتال بعد الوقفة التعبويَّة أنَّه أحد الأسباب الَّتي أدَّت إلى تقلُّص حجم النصر وخطأ كبير جعل من قوَّات الجيشين الثاني والثالث المصريَّة هدفًا سهلًا للطيران المعادي، في الوقت الَّذي تم إقامة جسر جوِّي لإمداد «إسرائيل» بأحدَث القِطع الحربيَّة من الولايات المتحدة، ما أسْهَم في إحداث تغيير كبير في مسار الحرب، وحدثت ثغرة الدفرسوار بَيْنَ الجيشين الثاني والثالث، وتوسَّعت لاحقًا لتشمل (٤) ألوية معادية اخترقت نَحْوَ الضفَّة الغربيَّة، كما يُشار هنا إلى الاختلاف الَّذي حدَث بَيْنَ القيادة السياسيَّة والقيادة العسكريَّة، هذا الخلاف الَّذي بدأ مع قرار تطوير القتال، وكذلك في مسألة معالجة الثغرة، ثم حدَث حصار الجيش الثالث والخسائر الكبيرة في القوَّات المصريَّة، وكذلك كان الحال على الجبهة السوريَّة، ورغم ما حدَث إلَّا أنَّ «إسرائيل» لم تُحقق نتائج استراتيجيَّة في الحرب، فقد عادت السيطرة على القناة بِيَدِ مصر وبدأت الملاحة فيها عام ١٩٧٥م، ولم تستطع احتلال أيِّ أراضٍ حيويَّة في مُدُن القناة بفضل المقاومة العظيمة، وكذلك استُعيدت القنيطرة السوريَّة وبعض الأجزاء من الجولان، لذا تسجِّل حرب أكتوبر المجيدة انتصارًا عربيًّا أنهتْ أسطورة الجيش الَّذي لا يُقهَر، واستعادت جزءًا من الأراضي المُحتلَّة، بالإضافة إلى قناة السويس وأدركت قدرات العدوِّ مسجِّلةً واقعًا عسكريًّا جديدًا على جبهات القتال، وهذا بحدِّ ذاته انتصار تاريخي يُحسب للأُمَّة العربيَّة الَّتي اتَّحدت من مشرقها إلى مغربها في موقف موحَّد ونبض عربي موحَّد، وهي كُلُّها نتائج عظيمة تؤكد أنَّ الأُمَّة متى ما اتَّحدت فهي قادرة على العودة وتحقيق النصر.
الدروس المستفادة بدأت بعد حرب ١٩٦٧م بموقف عربي جماعي موحَّد واستعدادات لمعركة النصر، واستمر ذلك حتَّى بدء حرب أكتوبر ١٩٧٣م، والأهم في تلك الحرب أنَّها جاءت بعد حرب استنزاف استمرت (٣) سنوات منذُ عام يوليو ١٩٦٧م، حاولت خلالها الولايات المتحدة و»إسرائيل» الوصول إلى سلام مع العرب عَبْرَ عدَّة مبادرات، لكن تم رفضها باعتبار أنَّ ما أُخذ بالقوَّة لا يُسترد إلَّا بالقوَّة، وتمسك العرب بوحدة موقفهم وعدالة قضيَّتهم، وتعلقت قلوب أبناء الأُمَّة مع جبهات القتال، واستمد الجنود قوَّتهم من خلال إيمانهم بالنصر، وقد تحقَّق بفضل الصمود والإرادة ووحدة الهدف والإصرار على تحقيق النصر. فهنيئًا لأبناء أُمَّتنا العربيَّة ذلك الانتصار العظيم، وعلى أمل غدٍ مشرق ـ بعون الله ـ باستعادة كُلِّ الحقوق وكُلِّ الأراضي المُحتلَّة وما ذلك على الله بعزيز.
خميس بن عبيد القطيطي