في إحدى زوايا مدينة أوساكا اليابانيَّة، جلستُ في مقهى صغير يطل على شارع ضاجّ بالأنوار والحركة، كان المكان يعجُّ بالمارَّة، لكن صمته الداخلي بدا كواحة تأمل. هناك التقيت مصادفةً برجل ياباني ستيني الملامح، يحمل في عينيه خبرة السنين وفي يديه صحيفة قديمة الطبع. بدأنا حديثًا عابرًا عن السفر، ثم عن الصحف، وما لبثَ أن انفتح النقاش على موضوع أتشوق لمناقشته أينما ذهبت: الإعلام وخصوصًا الإعلام المؤسَّسي. سألته: ما الَّذي يُميِّز الإعلام المؤسَّسي عن الإعلام التقليدي؟ ابتسم وأجاب بصوت هادئ، وهو يقلب فنجان الشاي بَيْنَ يديه، كأنَّه يلقي حكمة قديمة، بلكنته الآسيويَّة:
«المؤسَّسات لا تحارب بالصواريخ فقط، بل بالكلمات. والتواصل المؤسَّسي، إن أُحسن استخدامه، يصبح قوَّة ناعمة، أشبه بدرعٍ مضاد للعواصف الإعلاميَّة، وخصوصًا في عصر صحافة المواطن».
توسَّعنا في النقاش وطرحنا أسئلة تتجاوز المهنة إلى فلسفتها. كيف يُمكِن لمؤسَّسة أن تحوِّل تغريدة ناقدة إلى جسر ثقة؟ كيف يتحول بيان صادق إلى درع من الكلمات يصدُّ السهام الإعلاميَّة؟ وهل يكفي الرد السريع؟ أم أنَّ سرَّ القوَّة يكمن في الإصغاء العميق قَبل الكلام؟ ومنذُ ذلك اللقاء، لم أركِّز في سؤال: هل تستطيع تغريدة أن تهزَّ مؤسَّسة؟ فهذا أمر أثبتته التجارب مرارًا. بل صار السؤال الأعمق: كيف يُمكِننا أن نُحوِّل شرارة الأزمة إلى فرصة بناء، وأن نجعلَ من الكلمات قوَّة تسبق الأفعال؟
حين تذكرت عبارته، خطر ببالي مثال حي من منطقتنا. ففي عام 2023، وجدت الخطوط الجويَّة القطريَّة نفسها في قلب عاصفة رقميَّة بعدما نشر المدوِّن الجوي Josh Cahill مقطعًا ينتقد فيه تجربته مع الشركة. الفيديو حصد أكثر من مليونَي مشاهدة خلال أيَّام قليلة، وتحوَّل إلى نقاش عالمي. وهنا استحضرت ابتسامة الرجل الياباني: كيف يُمكِن لكلمات فرد أن تربكَ مؤسَّسة عالميَّة؟ لقد ردَّت القطريَّة بسرعة، برسائل توضيحيَّة ووعود بالتحسين. لم تنكرْ، لكنَّها لم تتركِ السرد يُساق ضدَّها. هذه السرعة أنقذت الموقف إلى حدٍّ كبير، لكنَّها كشفتُ الدرس الَّذي لمَّح له الياباني: الأزمة لا تُقاس بحجمها، بل بطريقة الاستجابة. لكن الاستجابة وحدها لا تكفي. فقِيَم الإعلام المؤسَّسي تعني أن يكُونَ البيان صادقًا لا مموَّهًا، وأن يحترمَ عقل الجمهور لا أن يُخدعَ بعبارات تجميليَّة. هنا يظهر الفارق بَيْنَ الشفافيَّة والتلميع؛ بَيْنَ مؤسَّسة تُصارح الناس بالحقائق مهما كانت قاسية، وأخرى تختار أن تُزين الواقع على حساب الثقة.
قال لي الياباني في ذات مساء: «الكلمة الصادقة لا تأتي قبل الإصغاء، بل بعده». اليوم أدركتُ معنى عبارته. الأزمات الحديثة لا تبدأ فجأة؛ بل غالبًا ما تولد من شرارة صغيرة: صورة عابرة، شكوى فرديَّة، أو تعليق على تويتر. لكن سرعة الانتشار قادرة على تحويلها إلى كرة ثلج تتدحرج في وعي الجمهور. وهنا تكمن أهميَّة الإصغاء الرقمي؛ ليس كترف تقني، بل كخط دفاع أول يمنح المؤسَّسة فرصة التدخل قَبل أن تتفاقم القصَّة. ومع ذلك، وحتَّى اليوم، لا توجد دراسات دقيقة تحدد بنسبة مئويَّة واضحة حجم الأزمات الَّتي كان يُمكِن التنبؤ بها عَبْرَ أدوات الإصغاء. لكن المؤكد أنَّ هذه الأدوات تجعل المؤسَّسة أقرب إلى جمهورها، وأكثر قدرة على فَهْم المخاطر قَبل أن تتحولَ إلى أزمات معلنة.
في يوليو 2024، ضرب العالم مثالًا آخر. تحديث خاطئ لشركة CrowdStrike عطَّل أنظمة تقنيَّة حسَّاسة. وحسب مايكروسوفت، فقد تضرر نَحْوُ (8.5) مليون جهاز Windows — ـ لكن الأثر بدا وكأنَّ العالم كُلَّه توقَّف. المطارات توقفت، الرحلات الجويَّة تأخرت أو أُلغيت، البنوك تعطلت، والخدمات الحكوميَّة مثل (911) شُلَّت، بَيْنَما تأثرت المستشفيات والفنادق ومحطَّات الوقود ومتاجر التجزئة. أزمة واحدة تحولت إلى تسونامي معلوماتي يضرب حياة الناس اليوميَّة. لكنَّ الشركة لم تهرب من الحقيقة. اعترفت بالخلل فورًا، وظلت تُصدر تحديثات لحظة بلحظة. لم تكتفِ بالكلمات، بل أصلحت الخلل وأطلقت مراجعة شاملة. وهنا عاد صدى كلمات الياباني في أذني: «حين تقول الحقيقة أولًا، لا تحتاج أن تدافع كثيرًا بعد ذلك». وهذا يُعلِّمنا أنَّ القِيَم تبدأ من الاعتراف. فالمؤسَّسة الَّتي تخشى الحقيقة تفقد ثقة الناس، أمَّا الَّتي تتحلى بالشجاعة وتقرُّ بالخطأ، فإنَّها تضع أساسًا متينًا لعلاقة طويلة الأمد مع جمهورها.
وفي عام 2025، وقعت مأساة أخرى. اصطدمت طائرة American Eagle (Flight 5342) التابعة لشركة أميركان إيرلاينز، وعلى متنها (60) راكبًا و(4) من الطاقم، مع مروحيَّة عسكريَّة من نوع Black Hawk قرب مطار رونالد ريجان في واشنطن. الحادث أودى بحياة (67) شخصًا، وأثار صدمة كبيرة في الأوساط الأميركيَّة والدوليَّة. لكن ما لفَتَ الانتباه لم يكُنْ حجم الكارثة فقط، بل طريقة الاستجابة: الشركة لم تكتفِ ببيانات جافَّة، بل خاطبت أُسر الضحايا بتعاطف إنساني، وقدَّمت وعودًا بالشفافيَّة في التحقيقات، وفتحت قنوات دعم مباشر لعائلات المتضررين. وهنا أدركت ما قصده الياباني حين قال: «بعض الكلمات تجرح، وبعضها يداوي». لقد أثبتت الشركة أنَّ الكلمات الَّتي تُشفي أقوى من الأرقام الَّتي تبرّر، وأنَّ القِيَم الإعلاميَّة ليست ملحقًا بالعلاقات العامَّة، بل جوهرها الأصيل.
التواصل المؤسَّسي ليس تزيينًا ولا بروباجندا. إنَّه هندسة ثقة. البروباجندا قد تكسب معركة قصيرة، لكنَّها تخسر حرب الوعي الجمعي. أمَّا التواصل الحقيقي، فيحوِّل صوت المؤسَّسة إلى جسر مألوف في وعي الناس، يُؤمنون به حتَّى لو جاء بخبر صعب. الإعلام المؤسَّسي بلا أخلاق يتحول إلى بروباجندا، أمَّا حين يُبنى على الشفافيَّة واحترام الناس والصدق في القول، فإنَّه يصبح قوَّة ناعمة حقيقيَّة. القِيَم الإعلاميَّة هنا ليست عائقًا، بل رأس المال الَّذي لا يُقدَّر بثمن.
وأنا أغادر أوساكا بعد أيَّام، ظلَّ وجْه الرجُل الياباني في ذاكرتي. لم يكُنْ مجرَّد عابر طريق، بل كان شاهدًا على حقيقة كبرى: «الكلمات دروع مضادة للعواصف الإعلاميَّة». واليوم أجدها حقيقة تتأكد كُلَّ يوم. ما يحمي المؤسَّسات ليس صخب الحملات ولا حجم الميزانيَّات، بل التخطيط المبكر، والقدرة على الإصغاء، والسرعة في التواصل والاحتواء، والصدق في القول. فالكلمات قد تُشعل أزمة، لكنَّها أيضًا قد تُطفئها. والبيان قد يُسقط مؤسَّسة، لكنَّه أيضًا قد يُعيد بناءها. وفي عالمٍ تتنازع فيه الرسائل على انتباه الجمهور، ستبقى المؤسَّسات الأكثر صدقًا واستعدادًا هي الأكثر حضورًا… لأنَّ القوَّة الناعمة ليست في الإقناع المؤقت، بل في بناء الثقة الدائمة.
بدر بن زاهر الكيومي
كاتب عماني