السبت 11 أكتوبر 2025 م - 18 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

روح أكتوبر

روح أكتوبر
الأربعاء - 08 أكتوبر 2025 12:08 م

د.أحمد مصطفى أحمد

30


مَر نَحْوَ نصف قرن على حرب أكتوبر المجيدة الَّتي انتصر فيها العرب على الاحتلال الصهيوني العنصري، ثم أول اتفاقيَّة سلام بَيْنَ الاحتلال وأكبر دول طوق المعروفة باسم اتفاقيَّة كامب ديفيد الَّتي استعادت مصر بموجبها أرضها المُحتلَّة في شِبه جزيرة سيناء. وبعد كُلِّ هذه العقود ما زال الاحتلال يشكو من أنَّ «التطبيع» مع المصريين يظل باردًا وأحيانًا ثلجيًّا إلى حد التجمد. ولا تخلو وسائل الإعلام الناطقة بالعبريَّة والتعليقات والتحليلات من أنَّ المصريين ما زالوا يعدُّون الاحتلال الصهيوني عدوًّا رغم التزام الدولة المصريَّة الرسميَّة باتفاقيَّات كامب ديفيد وبتعهداتها فيها. حتَّى الأجيال الجديدة من شباب مصر، ورغم التمييع والسطحيَّة الَّتي أسهمت الإنترنت ومواقع التواصل في نشرها بقوَّة، لم تتخلَّ عن اعتبار الاحتلال في فلسطين عدوَّها الأول رغم أنَّها لم تشهد حروبًا مصريَّة معه فقد كان آخرها قبل ولادة مُعْظم هؤلاء الشباب. كما أنَّ الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المتراجعة الَّتي تشغل المصريين لم تنسهم أنَّ الاحتلال الصهيوني هو عدوُّهم الأول.

في تمهيده للتفاوض والاتفاق السلمي بدأ الرئيس المصري الراحل أنور السادات تهيئة شَعبه بعد فترة قصيرة من نصر أكتوبر حين وقف خطيبًا أمام البرلمان المصري لِيقولَ جملته الشهيرة بأنَّ «حرب أكتوبر هي آخر الحروب». رُبَّما كان يقصد أنَّ ما تبقى من أرض مصر المُحتلَّة سيتمُّ استعادتها بالتفاوض بقوَّة النصر العسكري الَّذي تحقَّق في أكتوبر 1973. ثم بعد ذلك تحدَّث السادات عن زيارته للقدس بأنَّه «كسر الحاجز النفسي» مع الصهاينة. ومنذُ ذلك الحين يرى المعارضون لكامب ديفيد أنَّ كُلَّ ذلك كان محاولة للحدِّ من «روح أكتوبر» تمهيدًا للتسوية والسلام مع العدوِّ. وأنَّ مسألة «الحاجز النفسي» هي تبسيط مخلٌّ لوضع تهديد يُمثِّله الاحتلال الصهيوني حتَّى لو تمَّ استعادة كُلِّ الأرض المصريَّة المُحتلَّة. ولعلَّ في تلك الانتقادات بعض الحقيقة، إذ إنَّ القول بأنَّ حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب، فضلًا عن أنَّه يبدو تبرعًا بالمهادنة مع أعداء لا عهد لهم ولا ذمَّة هو أيضًا غير منطقي حتَّى لو كان القصد ألَّا تبدأ مصر حربًا بعد ذلك. فلم تتوقف الحروب، حتَّى وإن لم تكُنْ مباشرة مع العدوِّ الصهيوني إنَّما الحرب على الإرهابيين الَّذين أخذوا يفجرون ويقتلون في مصر منذُ تسعينيَّات القرن الماضي هي حروب أيضًا.

لكن هل نالت تلك التوجُّهات السياسيَّة المصريَّة بالتفاوض والسلام، المتزامن مع التحول الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، فعلًا من روح أكتوبر؟ إنَّ الشواهد الحاليَّة تدلُّ على أنَّ ذلك ـوإن كان قد حدث بقدر ـ فإنَّ تلك الروح لم تختفِ تمامًا، بل وتنتقل من جيل إلى جيل. خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ روح أكتوبر لا تعني فقط ما استمدَّه شَعب مصر، والشَّعب العربي الأوسع، من نصر في حرب عام 1973 إنَّما تعني اعتبار الاحتلال الصهيوني العنصري في فلسطين عدوًّا لمصر والأُمَّة العربيَّة وأكدت الحرب في أكتوبر أنَّه لا يفهم سوى لُغة القوَّة، وأنَّ تحرير الأرض لا يتمُّ بالتفاوض وحده ما لم تكُنْ هناك قوَّة تُمثِّل ورقة في ذلك التفاوض. روح أكتوبر، بمعنى أوسع، إذًا هي عقيدة وقناعة أغلبيَّة المصريين منذُ نَحْوِ قرن ومعهم كثير من العرب والمسلِمِين تجاه الاحتلال في فلسطين وتوسُّعاته العدوانيَّة في دول الطوق. رُبَّما ضعفت روح أكتوبر وتراخت القناعة بها في فترات على مدى العقود الماضية، لكن كُلّ ما جرى لم يقضِ عليها تمامًا. ورُبَّما أسهم في ذلك أيضًا أنَّ الاحتلال الصهيوني لم يتوقفْ عن الاعتداءات والتدمير ومحاولات التوسُّع في لبنان وسوريا واستهداف دول المنطقة من العراق وإيران إلى تونس واليمن. تلك الروح متأصلة لدى أغلب المصريين وكثير من الشعوب العربيَّة وهي أنَّ الاحتلال الَّذي جلبه الاستعمار من كُلِّ بقاع الأرض، وخصوصًا من دول أوروبا الوسطى والشرقيَّة ليستوطنَ بلدًا عربيًّا بالمذابح والمجازر والتهجير منذُ مطلع القرن الماضي هو عدوٌّ تاريخي.

حتَّى ما جرى من تغيُّرات في العقود الأخيرة من اعتبار التطرف الدِّيني المسلَّح والإرهاب عدوًّا لم ينلْ تمامًا من أولويَّة ما يُمثِّله الاحتلال الصهيوني العنصري من تهديد دائم ومباشر. صحيح أنَّ غزو واحتلال وتدمير العراق، وتمزُّق سوريا وليبيا والسودان واليمن وغيرها بالحرب الأهليَّة، طوَّر تحدِّيات متعددة تضاف إلى خطر الإرهاب. لكن مع ذلك يظل راسخًا لدى كثيرين، في مصر وغيرها في المنطقة، أنَّ العدوَّ الأول هو الاحتلال الصهيوني، ليس فقط من أجل الفلسطينيين ودعمهم، ولكن لأنَّه يُمثِّل خطرًا على المنطقة كُلِّها بطبيعته العدوانيَّة المتأصلة وإرهاب مستوطنيه المسلحين. ذلك هو جوهر ما يوصف بأنَّه «روح أكتوبر» المستمرة من قبل حرب العاشر من رمضان 1973 وما بعدها إلى هذا اليوم. ولم تفلح كُلُّ اتفاقيَّات السلام وترتيبات التطبيع والحروب الأخرى الَّتي ظهرت في المنطقة بخلفيَّات مختلفة ولا حتَّى الضعف الاقتصادي والتغيير الاجتماعي القسري في النَّيل منها تمامًا. قد تتراجع قوَّتها أحيانًا، ورُبَّما تبدو وكأنَّها كادت تختفي لكنَّها كجذوة النار في نفوس الناس العاديَّة يورثونها للأجيال، وتساعد عدوانيَّة وهمجيَّة الاحتلال وجرائمه ضدَّ الإنسانيَّة المستمرة ضدَّ الفلسطينيين وبقيَّة شعوب المنطقة وقودًا يُذكي نار جذوة روح أكتوبر. وكُلُّ أكتوبر وأنتم بخير.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]