الاثنين 06 أكتوبر 2025 م - 13 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

العرب والإصلاح السياسي.. مفارقات بين التنظير والتطبيق

العرب والإصلاح السياسي.. مفارقات بين التنظير والتطبيق
السبت - 04 أكتوبر 2025 12:27 م

سعود بن علي الحارثي

40


مُعْظم ـ إن لم يكن جميع الأنظمة السياسيَّة وحكومات الدول العربيَّة ـ تتغنى بالقِيَم الديمقراطيَّة ومبادئ الشورى، وتدَّعي بأنَّها تنتمي إلى دولة المؤسَّسات والقانون ممارسة لا تنظيرًا، وفعلًا لا قولًا، ولدَيْها برلمان وإن اختلفت وتفاوتت مسمَّياته وصلاحيَّاته، وأجهزة رقابة ومساءلة فاعلة، لمحاربة ووأد كُلِّ أشكال وطُرق الفساد وملاحقة المفسدين، فالمواطن شريك أساس في صناعة القرار، فهو مَن يختار ممثلِّيه في البرلمان، وهو مَن يجدِّد للقيادة السياسيَّة بنسبة (99%) بحسب القاعدة المألوفة، وإعلامها ـ أي الأنظمة السياسيَّة والحكومات العربيَّة ـ ويمتلك حُريَّة تعبير مفتوحة، ونوافذ ومساحات تكفي لِكَيْ يقول المواطن ويطرح ويتحدث من أثيرها وشاشاتها بما يشاء من نقد ورؤى وأفكار وملاحظات، والبرامج التلفزيونيَّة والراديو تحاور المسؤول والمواطن في بث مباشر... في قضايا الوطن ومشاكله ومشهده العام بكُلِّ تجلِّياته وموضوعاته، ومَن يستمع إلى قنوات وصحف ووسائل الإعلام الرسمي العربي، الَّتي تطلق على المجالس الاستشاريَّة برلمانات، وسُلطات تشريعيَّة ورقابيَّة، لا يكاد يشك بأنَّ الدول العربيَّة تنتمي إلى بُلدان ديمقراطيَّة راسخة قِيَمها، ومؤسَّساتها السياسيَّة مثلها والأنظمة الأوروبيَّة الغربيَّة سواء بسواء، وعِندَما أسمع وأتشبع حتَّى الثمالة من هذه الادعاءات على علَّاتها الَّتي تثير الاستغراب لتناقضها الصارخ مع الواقع، أسأل نفسي كنوع من الاختبار وتعزيز اليقين، على أنَّني، أنا الكاتب الَّذي مارست فعل الكتابة في مجال «المقال» لأكثر من عقدين ونصف، وتكوَّنت لديَّ بعض الخبرات والتمرس: هل أستطيع اليوم في هذا العالم المفتوح على بعضه، أو أجرؤ على انتقاد ولوم وتقريع أي نظام عربي، رئيسه، أو حتَّى أحد وزرائه أو النافذين فيه، حَوْل سياسة من سياساته أو مشروع وعمل أو شن حرب وإظهار موقف عدائي أضرَّت بالأُمَّة ومُجتمعاتها ووأدت تطلُّعاتها، بِدُونِ أن أتعرض للاضطهاد والتهديد؟ ـ مثالًا الموقف السياسي من تجريد المقاومة من سلاحها، أو قيادة تجمع عالمي يعترف بدولة فلسطينيَّة منزوعة السلاح مسلوبة الإرادة ـ قد تبدأ أولًا: برفض الصحف الَّتي أبعث لها بالمقال عن نشره، إلَّا إذا كانت معارضة ومعادية لذلك النظام، وفي موقع النقيض من سياساته وتوجُّهاته، فسوف ترحب بالطبع، وفي هذا خطر أكبر على الكاتب، وأدعى لاتهامه ببيع قلمه، وإضرار بسمعته ومكانته، في موضوعيَّته، وفي تحرِّيه تحقيق العدل والمصلحة العامَّة من غاية الكتابة، والوقوف موقف العادل النَّزيه. ثانيًا: قد يتمُّ استدعائي من قبل سفارة تلك الدولة للاحتجاج على المقال، والتعهد بالامتناع مستقبلًا عن نقد نظامها السياسي. ثالثًا: قد يُحدث المقال ضررًا بعلاقة بلادي بالدولة الَّتي تناولها، ونشوء أزمة سياسيَّة، فيطلب منِّي الاعتذار، بحجَّة أنَّ مصلحة الوطن فوق كُلِّ اعتبار. رابعًا: قد أمنع من الدخول إلى ذلك البلد مستقبلًا، ولا يستبعد اعتقالي إذا وطئت أراضيها ولو بعد سنوات، وقد أتعرض لحملة إعلاميَّة شعواء في الصحف ووسائل التواصل... وقد حدَث ذلك فعلًا لكتَّاب أعرفهم. وفي المشهد الكثير من الصوَر والمواقف والنماذج الموثَّقة في سِيَر ذاتيَّة أو في مواقع وسائل التواصل وفي ثنايا الأحاديث والحوارات الشخصيَّة. وواصلت استكمال تساؤلي، فيما لو أنَّني تناولت في مقالي بالنقد اللاذع والهجوم العنيف دولة غربيَّة مثل بريطانيا أو فرنسا أو السويد أو هولندا أو أميركا... فهل سيحدث لي مثلما أتوقعه من أيِّ نظام عربي؟ أوَلَيستْ مقالاتنا الَّتي تتناول انتهاكات هذه الدول، وتعلن عن احتجاجاتنا المتواصلة، مثلًا: على دعمها لـ«إسرائيل»، وفي محاربتها للحجاب، والرسوم المسيئة، وفي ملاحقتها للعرب والمسلمين والتنكيل بهم في بُلدانها، وتدخلاتها السياسيَّة والاقتصاديَّة في شؤوننا، وفي حروبها العسكريَّة على العديد من البلاد العربيَّة، وازدواجيَّة تعاملها مع الشعوب والدول الفقيرة والضعيفة... نتعرض لها بالهجوم الحادِّ والنَّقد اللاذع واتهامها بالعدائيَّة والعنصريَّة والتعصُّب الأعمى والظلم الصارخ والديمقراطيَّة الفاسدة... إلى غير ذلك من النماذج والصوَر، ونحن في اطمئنان من عدم حدوث أيِّ ملاحقة أو تبعات واحتجاجات وضرر ما أو اعتقال فيما لو أنَّنا زُرنا بُلدانها؟ إنَّ المتابع لأحداث العالم العربي وتحوُّلاته، في صراعاته ونكباته وضعفه وتخلُّفه عن الركب الحضاري وفشل مشاريعه وسياساته، ليدرك تمام الإدراك بأنَّ السبب الرئيس لهذا الواقع الماثل يعود إلى الازدواجيَّة والهُوة الساحقة بَيْنَ التنظير والتطبيق، بَيْنَ الشعارات والعمل الفعلي الملموس، نتغنى بكُلِّ تلك القِيَم الجميلة، ونروِّج ونسوِّق لها في إعلامنا الرسمي الَّذي تهيمن عليه الأنظمة السياسيَّة والحكومات، فيما الحقيقة أنَّ الفساد مستشرٍ في أوصال الحكومات ووزاراتها والنافذين فيها، وما يُسمَّى بالبرلمانات وأجهزة الرقابة واستقلاليَّتها والمؤسَّسات الإعلاميَّة الحُرَّة، هي حقيقة، معطلة ومجرَّدة من الصلاحيَّات.. إنَّها صورة مشوّهة للسُّلطات التشريعيَّة والرقابيَّة في البلدان الديمقراطيَّة، وجاءت ثورات «الربيع العربي» الَّتي عمَّت مُعْظم العواصم والمُدن العربيَّة لِتكذبَ مهزلة الـ»99%»، الَّتي ظلَّ الإعلام العربي في كُلِّ بلد، يُطلقها ويردِّدها عقب كُلِّ فترة انتخابيَّة رئاسيَّة، فكيف نتوقع لهذه الأُمَّة أن تنهض من سُباتها وتتقدم وتُسهم في ثورات العالم العلميَّة والمعرفيَّة والتقنيَّة... وتستثمر في البحث العلمي والابتكار والمواهب والذكاء الاصطناعي، ومافيا الفساد والجهل والتخلف والإقصاء والفقر وخلل وضعف القوانين والظلم ينخر في أساساتها، والازدواجيَّة في التعامل مع الشعوب تحفر عميقًا لتقطع كُلَّ أوصال وخيوط الثقة بَيْنَ المُجتمعات من ناحية وهذه الأنظمة السياسيَّة من ناحية أخرى؟ إنَّ الزَّخم النَّامي والاحتجاجات المتصاعدة والحراك النشط وإظهار الدعم بأشكال وصوَر مختلفة، الَّذي تشهده مؤسَّسات المُجتمع المدني والإعلام الحُر والشوارع والساحات في الغرب غضبًا وسخطًا واستنكارًا ورفضًا لما يحدُث في غزَّة من جرائم يندى لها جبينُ البشريَّة، ومحاولة كسر الجمود والحصار وإغاثة الجوعى... في مقابل الهدوء والاستكانة والتجاهل والتغاضي الَّذي يحدث في الوطن العربي، يُعَبِّر بكُلِّ تجلِّياته عن هذه المعضلة الَّتي تعيشها مُجتمعاتنا. لقد أشرتُ في مقال سابق نشرته هذه الصحيفة الغرَّاء «الوطن»، جاء عنوانه على صيغة سؤال: «هل يُمكِن تحقيق أهداف أي رؤية اقتصاديَّة بدون إصلاح سياسي؟»، طرح الكثير من التساؤلات الَّتي تسعى للكشف عن حقيقة الارتباط الوثيق بَيْنَ الإصلاحين الاقتصادي والسياسي، وبأنَّ تحقيق الازدهار والنُّمو والتقدم الاقتصادي ونجاح الرؤى والخطط والاستراتيجيَّات الاقتصاديَّة مرتبط بإحداث إصلاح سياسي شامل، من ضمن تلك التساؤلات «هل يُمكِن تحقيق أهداف وغايات الرؤى الاقتصاديَّة بدون إصلاح سياسي حقيقي؟ وبدون خطوات عمليَّة وجادَّة برفع وتوسيع وتعميق صلاحيَّات وأداء المؤسَّسات التشريعيَّة والرقابيَّة، ووسائل الإعلام وأجهزة المحاسبة والمساءلة وتحقيق استقلاليَّتها التَّام عن ضغوط وهيمنة السُّلطة التنفيذيَّة لتحقق مبدأ الشراكة والتمثيل الحقيقي للمُجتمع، وتتمكن من مساءلة كبار المسؤولين والنافذين، وسدّ منافذ الفساد وكفالة القانون لحُريَّة التعبير، ومراقبة وتقييم تنفيذ وتطبيق أداء أيِّ رؤية اقتصاديَّة نهضويَّة، ومحاسبة كُلِّ مَن تسبَّب في إخفاقاتها وإعاقة تحقيقها لأهدافها؟ هل يتحقق الإصلاح وتنهض المُجتمعات وتتقدم الأوطان وترتفع مؤشِّرات الإنجاز في كُلِّ شيء بما في ذلك براءة الاختراع والابتكار والتصنيع وتكنولوجيا الذَّكاء الاصطناعي... ويطبق القانون وتضمحل بؤر الفساد وتردم، وتتطور مؤسَّسات التعليم ومراكز البحث العلمي وتحتضن المواهب في بيئة لم تترسخ بعد فيها قِيَم المشاركة الفاعلة والحقيقيَّة؟ لماذا عِندَما ننطلق في إعداد وتطبيق مراحل أيِّ رؤية «شاملة»، نركز فقط على الجانب الاقتصادي، ونتجاهل الإصلاح السياسي واستقلاليَّة المؤسَّسات ونتجاوز مسألة تمكينها من تأسيس ممارسات وتقاليد برلمانيَّة تشريعيَّة رقابيَّة وانفتاح إعلامي يفتح نوافذ التعبير لكُلِّ الأطراف وتحفظ للمُجتمعات حقوقها وتشعرها بالشراكة الحقيقيَّة؟ ألا يعني تجاهل هذا المحور في أيِّ رؤية واستراتيجيَّة حرمانها من ضلعها أو عمودها الأساسي الَّذي لا تستوي ولا تنجح بدونه؟». ممَّا لا شكَّ فيه بأنَّ دوافع وأسباب تجاهل الإصلاح السياسي في بلداننا العربيَّة معروف ومفهوم، وسنظلُّ نَدُور في حلقة الإخفاقات وإفساد كُلِّ المشاريع والرؤى والثروات الَّتي تمتلكها الأُمَّة، وستواصل هذه السياسة وأْدَ وحرمان المواطن العربي من تطلُّعاته المشروعة بالإسهام والمشاركة في الركب الحضاري والتقدم العلمي العالمي.

سعود بن علي الحارثي

[email protected]