منذ انطلاق رؤية «عُمان 2040» كخريطة طريق وطنيَّة أولى نَحْوَ تحديث الدولة ومرتكزاتها في ظل الثورات الصناعيَّة المتلاحقة، وُضع الشَّباب في قلب أهدافها باعتبارهم الثروة الحقيقيَّة ومفتاح المستقبل، إلَّا أنَّ «أريد أشتغل» هو الصوت الرخيم الَّذي يصدح في كثير من البيوت العُمانيَّة؛ لِيكشفَ عن ازدواجيَّة قائمة بَيْنَ التطلُّعات المرسومة والواقع المعيشي. فعقيدة العصر أصبحت تعدُّ أنَّ البطالة ليست مؤشرًا اقتصاديًّا فحسب، بل هي قضيَّة مركَّبة تنسف مظاهر التَّنمية، ومبادئ الهُوِيَّة الوطنيَّة، وتنثر عقد الاستقرار الاجتماعي لكثير من الدول وعُمان جزء لا يُمكِن تحييده عن هذه القرية العالميَّة. قد تتفق القارئ العزيز أنَّ مفردة «عاطل» غير مُحبَّذة ورُبَّما لا تواكب المفهوم الرسمي «الباحث عن العمل»؛ إلَّا أنَّ تفاصيل المقال تبوح بما تشدو به حناجر الشارع العُماني وقلبه النابض على وطنه القابض على تنميته. وعودة على ذي بدء باستضاءة الرؤية فيما يتعلق بأهدافها ذات الصلة بالتشغيل؛ نجدها تستهدف «التَّمكين البشري» من خلال رفع نسبة مشاركة الشَّباب في سوق العمل، وتوفير تعليم ذي جودة عالية يُرفدُ كوادره في سوق العمل، وبناء منظومة متكاملة معنيَّة بالتدريب المستمر وصقل مواهبهم بمهارات المستقبل، كما تتطرق في هدف العدالة والرفاه الاجتماعي إلى توفير الوظائف اللائقة ذات الأجور المُجزية، وتمكين الدَّوْر الوطني للقِطاع الخاص كضلع رئيسٍ للتشغيل في الدولة والمجالات الاقتصاديَّة. وبمقارنة بسيطة بَيْنَ طموحات وآمال الرؤية الوطنيَّة والواقع؛ تشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أنَّ نسبة «الباحثين عن عمل» في سلطنة عُمان في العام 2024 (14%) من إجمالي القوى العاملة مع التأكيد على أنَّ غالبيَّتهم من فئة المتعلمين بمختلف المؤهلات، كما أنَّ تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2024) أكد أنَّ هذه النسبة مُرشَّحة للارتفاع بسبب ضعف سياسة ومنهجيَّة تنويع المصادر والقوَّة الصناعيَّة داخل الاقتصاد العُماني؛ مما سينعكس سلبًا في ارتفاع جذب واندفاع اعتماد سوق العمل على القِطاع الحكومي وتنامي مسؤوليَّة الظل الخفيَّة للقِطاع الخاص بدلًا من دَوْره الحقيقي، ولو تفحَّصنا بهدوء واقع تحقيق العدالة والرفاه الاجتماعي فيما يتصل بالأجور تُظهر مؤشرات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أنَّ (65%) من العاملين في القِطاع الخاص رواتبهم أقلّ من (600) ريال، وهي قابلة للانخفاض بسبب التقلُّبات الاقتصاديَّة والجيوسياسيَّة في المحيط. إذًا «الباحثون عن عمل» مُشْكلة وطنيَّة حقيقيَّة تحتاج للتفكير خارج الصندوق لحلِّها بطريقة علميَّة وعمليَّة ومسؤوليَّة بعيدًا عن الارتجاليَّة والحلول الترقيعيَّة الَّتي تُثقل كاهل المُجتمع والدولة على حدٍّ سواء؛ فهي اقتصاديًّا تحدُّ من نُمو الناتج المحلِّي، وتُحمّل الميزانيَّة العامَّة للدولة أعباء مضاعفة من خلال برامج الدعم والإعانات. واجتماعيًّا ترفع من معدَّلات تأخر سن الزواج، وإضعاف الاستقرار الأُسري، ولا يُمكِن أن نغفل أثَرها النفْسي الَّذي يخلق بيئة مليئة بالإحباط وفقدان الحافز، مما ينعكس على إنتاجيَّة المُجتمع، إضافة إلى الأخطار الأمنيَّة بحيثُ تُسهم في إيجاد مستنقعات قابلة للاحتقان والامتعاض وتشرُّب الأفكار والمعتقدات والرؤى الخارجيَّة، مما يهدِّد النسيج المُجتمعي الوطني؛ فكُلُّ ذلك يُحتِّم على مهندسي سياسات الدولة الإسراع في فتح هذا الملف بكُلِّ شفافيَّة ومصداقيَّة ومسؤوليَّة من أجل الحل الأمثل وبرؤية استراتيجيَّة صحيحة وليست حلولًا مؤقتة. لو تعمقنا أكثر في هذا الملف الَّذي يُعدُّ من أكثرها سخونة في نقاشات الوسط العُماني، وطرحنا سؤال كُلِّ عائلة تحتضن كوادر وطنيَّة مؤهلة ولسان حالهم: «لماذا أبناؤنا لم يحصلوا على فرصة عمل وعدد سكان البلاد ليس بالكبير أمام كُلِّ ما تملكه من ثروات ومقدرات ومؤهلات تمكِّنها من أن تكُونَ عالميَّة كبعض دول مجلس التعاون الخليجي الَّتي سبقتها عُمان تاريخًا واقتصادًا وتعليمًا؟!»، ثم أمام كُلِّ الملايين الَّتي ضُخَّت للمشاريع الاستراتيجيَّة طوال سنوات طويلة وفي مقدمتها المدينة الاقتصاديَّة بالدقم ـ على سبيل المثال ـ وهي الوجهة الاقتصاديَّة الأُولى للسلطنة منذ وضع الدراسات التخطيطيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لها في العام 2000، مرورًا بوضع حجر الأساس في العام 2008، لماذا لا يزال أبناؤنا «باحثين عن عمل»؟ فأين النتيجة للطموحات الَّتي وُضعت لها بتوفير 30000 وظيفة حتَّى العام 2030 ونحن الآن على نهاية العام 2025 كما تظهر المؤشِّرات أنَّ نسبة التعمين تراوح بَيْنَ (14-18%)؟ إلى جانب الكثير من الأسباب الَّتي تتقاطع في سببيَّة هذه المشكلة، يُمكِن أن نسلط الضوء على ضعف المواءمة بَيْنَ التعليم ومتطلبات سوق العمل والعالم من حَوْلنا. فالمتتبع لمؤشر مخرجات التعليم يجد غالبيَّتها تتكدس في تخصُّصات الإدارة والعلوم الإنسانيَّة، بَيْنَما حاجة السوق المحلِّي والعالمي تتجه نَحْوَ التقنيَّة والهندسة والمِهن التطبيقيَّة، إلَّا أنَّ مؤسَّساتنا التعليميَّة لا تزال تؤهل كوادر وطنيَّة لتضمَّ إلى سجل «ماشي شغل!» أعداد جديدة، كما أنَّ كثيرًا من مؤسَّسات القِطاع الخاص حسب المسوحات الوطنيَّة الَّتي تجريها المؤسَّسات المعنيَّة بالتشغيل بالدولة تظهر شكاوى وامتعاضًا من الموظف العُماني بسبب نقص المهارات التقنيَّة والرقميَّة واللُّغات والمهارات الناعمة، وهو ما فتح الباب على مصراعيه للتملُّص من توظيف الكوادر الوطنيَّة وصولًا إلى التسريح في مرحلة لاحقة، إلَّا أنَّ مؤسَّساتنا التعليميَّة لا تزال تُقدِّم المهارات التقليديَّة على الرغم من أنَّ الاستراتيجيَّة الوطنيَّة للتعليم 2040 تركز على تعزيز التعليم الفني والمِهني (TVET) وربطه مباشرة بالصناعة، فأين وصلنا في تحقيق هذا الهدف؟ نحن بحاجة إلى الاستفادة ممَّن سبقنا في نجاح المواءمة بَيْنَ معطيات محتوى التعليم ومخرجاته ومتطلبات السوق، فسنغافورة الَّتي عملت على تطبيق استراتيجيَّة «رصيد تدريب مدى الحياة» بحيثُ يكتسي الطالب المهارات المطلوبة فعليًّا ليتلقفَه السوق بإلحاح كبير ساعدَها على تقليل الفجوة في نقص المهارات وارتفاع معدَّلات الفرص الوظيفيَّة وانتعاش ممكِّنات السوق وتنوعه. كما عملت ماليزيا على فرض البرامج التدريبيَّة للطلبة داخل الشركات ممَّا أعطى مؤشِّر رضا بنسبة (80%) من أصحابها على مهارات الخريجين وضمن لهم التوظيف ورفع الإنتاجيَّة ومستوى الاقتصاد الوطني، واعتمدت ألمانيا نظام التعليم المزدوج الَّذي يجمع بَيْنَ نظريَّات ما يتعلمه الطلبة وتطبيقها في الشركات لتنخفض معدَّلات البطالة. لا يُمكِن إلقاء اللوم على «الباحث عن عمل» بأنَّه سبب في عدم حصوله على فرصة وظيفيَّة نتيجة ضعف تطوير مهاراته الَّتي يحتاجها سوق العمل ونُجرِّد مؤسَّسات التعليم من مسؤوليَّتها الكبيرة في ضعف المواءمة بَيْنَ البرامج التعليميَّة والمهارات المستهدفة على المستويين العام والعالي وحاجة السوق، نحن بحاجة إلى مراجعة شاملة وغربلة لمقاعد التخصُّصات المتشبعة حتَّى لا نطيل قائمة الانتظار، وإنشاء اللجان المتخصِّصة بالمهارات الَّتي تحتاجها الدولة وسوق العمل من أرباب الشركات والمؤسَّسات الخاصة والحكوميَّة لتطعيمها في المناهج الدراسيَّة والدَّوْرات والبرامج التدريبيَّة، وإطلاق مؤشِّر وطني واضح وشفَّاف وصريح يراقب الطموح والواقع لهذه المواءمة ويُحدَّث بصورة رُبع سنويَّة للتطوير تتضمن معدَّلات البطالة، والتوظيف، ورضا أصحاب العمل، وخلق بيئة قِطاع خاص آمِن ومستقر يتضمن حوافز جاذبة تُسهم في مرحلة قادمة إلى تقليل الفوارق بَيْنَه وبَيْنَ القِطاع العام، وإيقاف نزيف الكوادر الوطنيَّة من التسريح الَّذي هو أساسًا قضيَّة بحثيَّة مستقلَّة تُسهم في زيادة حجم كرة الثلج الحاليَّة المتدحرجة في قِطاع التشغيل.
د. سلطان بن خميس الخروصي
كاتب عُماني