يعرف عن مفهوم (المشاركة الشَّعبيَّة) بأنَّه من المفاهيم الجوهريَّة في العلوم السياسيَّة والاجتماعيَّة، فهو يشير إلى مساهمة المواطنين في صناعة القرار ورسم السياسات العامَّة، سواء بصورة مباشرة من خلال الاستفتاءات والانتخابات، أو عَبْرَ آليَّات غير مباشرة مثل المشاورات المُجتمعيَّة والحوارات الوطنيَّة والمنصَّات الرقميَّة، فيما ترى النظريَّات الحديثة أنَّ المشاركة الشَّعبيَّة هي إحدى الأدوات الأساسيَّة للدفع بفاعليَّة السياسات العامَّة وتعزيز التَّنمية المستدامة عَبْرَ الاستناد إلى قاعدة واسعة من الآراء والخبرات. وتتنوع صور المشاركة الشَّعبيَّة بَيْنَ المشاركة الانتخابيَّة الكلاسيكيَّة عَبْرَ صناديق الاقتراع والمشاركة الحواريَّة من خلال الملتقيات والمنتديات، والمشاركة الرقميَّة الَّتي أصبحت من أبرز أدوات العصر الحديث عَبْرَ المنصَّات الإلكترونيَّة والتطبيقات الذكيَّة، بالإضافة إلى المشاركة المُجتمعيَّة الَّتي تشمل العمل التطوعي والمبادرات الأهليَّة، في حين أنَّ القاسم المشترك بَيْنَها يتمثل في تمكين المواطن من أداء دَوْر حقيقي في تحديد أولويَّاته وصياغة آليَّات تحقيق تلك الأولويَّات. وتتجلى قيمة هذه المشاركة في عدَّة أبعاد تشمل تعزيز الشفافيَّة وتفعيل الشراكة بَيْنَ مؤسَّسات الدولة والمُجتمع، والإسهام في ابتكار حلول جماعيَّة مبتكرة للقضايا التنمويَّة، كما أنَّها تمنح الأفراد شعورًا بالمسؤوليَّة المشتركة، وتجعل التَّنمية مشروعًا وطنيًّا يتقاسمه الجميع، فضلًا عن أنَّها أداة فعَّالة لخلق توازن بَيْنَ تطلعات المواطنين وإمكانات الدولة، وتجسِّد تفاعليَّة العلاقة بَيْنَ المواطنين ومؤسَّسات الدولة. وفيما تتميز التجربة العُمانيَّة في مجالات المشاركة الشَّعبيَّة بالثراء من خلال انتخابات مجلس الشورى والمجالس البلديَّة بالانتخاب المباشر، برزت في السنوات الأخيرة مبادرة الأمانة العامَّة لمجلس الوزراء عَبْرَ ملتقى «معًا نتقدم» بوصفها نموذجًا عمليًّا لتجسيد المشاركة الشَّعبيَّة في الواقع المؤسَّسي، مستهدفًا تحقيق تواصل حكومي مُجتمعي فاعل لمناقشة التحدِّيات ومواكبة التطلُّعات، وتوسيع مشاركة المواطنين في رحلة البناء والتطوير من خلال رؤاهم البنَّاءة لدعم السياسات والبرامج التنمويَّة، علاوةً على إطلاع المواطنين على السياسات العامَّة من خلال إيضاح توجُّهات الحكومة وأولويَّاتها في كُلِّ مرحلة، وإطلاع المُجتمع على سياساتها وبرامجها ومبادراتها بشفافيَّة. ومن اللافت أنَّ الملتقى حقق نجاحًا كبيرًا في توسيع قاعدة المشاركين فتضاعف عددهم من ستمئة مشارك بالنسخة الأولى إلى ألف وثمانمئة في الثَّانية وصولًا إلى أربعة آلاف مشارك بالنسخة الرابعة من الملتقى، في حين اعتمدت النسخة الرابعة آليَّة التصويت عَبْرَ رمز الاستجابة السريعة المعروف باسم (الباركود) لاختيار الموضوعات المقترح مناقشتها بهذه النسخة مما يمنح المواطن دَوْرًا محوريًّا في دعم البرامج التنمويَّة. تحمل هذه الخطوة دلالات عميقة؛ كونها تؤكد أنَّ عمليَّة صناعة القرار بسلطنة عُمان تتعامل مع المواطن على أنَّه شريك أصيل لا مجرَّد متلقٍّ للسياسات، كما أنَّها تُجسّد الانتقال من نموذج «المبادرات الحكوميَّة من القمَّة إلى القاعدة» إلى نموذج «الشراكة الأفقيَّة» الَّتي تقوم على التفاعل المتبادل. كما أنَّها تُسهم في تعزيز ثقة المُجتمع بآليَّات العمل المؤسَّسي، إذ يشعر المواطن أنَّ صوته لا يذهب سدى، بل يتحول إلى مدخل مؤثر في صياغة السياسات العامَّة. كما تُمثِّل تجربة «معًا نتقدم» إضافةً نوعيَّة إلى التجارب الإقليميَّة بمجال المشاركة الشَّعبيَّة؛ كونها تجمع بَيْنَ الأصالة والحداثة، وذلك على ضوء أصالة الحوار الوطني المستمد من المجالس العُمانيَّة التقليديَّة، فيما تتمثل فيها حداثة الأدوات الرقميَّة الَّتي تُتيح التصويت والاقتراح والتفاعل بصورة منظَّمة وشفَّافة، حيثُ يعكس هذا المزج قدرة سلطنة عُمان على تحديث أدواتها التفاعليَّة مع المواطن بما يتماشى مع متطلبات القرن الحادي والعشرين، دون التفريط في خصوصيَّتها الثقافيَّة والاجتماعيَّة. بذلك يُمكِننا القول بأنَّ ملتقى «معًا نتقدم» ليس مجرَّد حدَث دَوْري، بل هو مدرسة في الممارسة التشاركيَّة، ونموذج عملي يبرهن على أنَّ التَّنمية المستدامة يُمكِنها أن تتحقق عَبْرَ شراكة حقيقيَّة بَيْنَ مؤسَّسات الدولة والمُجتمع، في حين أنَّ تعزيز التجربة وتوسيع نطاقها وضمان استمراريَّتها سيظلُّ أحَد المفاتيح الرئيسة لتعزيز مسيرة بناء مستقبل تتجدد نهضته على أُسُس متينة بَيْنَها الحوار والثقة والمشاركة الفاعلة.
طارق أشقر
من أسرة تحرير «الوطن »