الاثنين 06 أكتوبر 2025 م - 13 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : قرصنة فـي عرض المتوسط وحرب إبادة على غزة

السبت - 04 أكتوبر 2025 04:30 م

رأي الوطن

50


في تحدٍّ جديد لكُلِّ القِيَم والأعراف، ارتكبت قوَّة الاحتلال الصهيوني جريمة قرصنة جديدة موثَّقة ضدَّ أسطول الحُريَّة في عرض البحر الأبيض، لِتؤكِّدَ أنَّ منطق القوَّة صار الحاكم في زمن تلاشت فيه معاني العدالة. فالسُّفن الَّتي حملت الدَّواء والغذاء أُوقفت تحت تهديد السِّلاح، وتحوَّل البحر إلى مساحة للعقاب الجماعي، حيثُ يحاصر الإنسان حتَّى في ممرَّات الرَّحمة! وما جرى هو اعتداء على الفكرة الإنسانيَّة قَبل أنْ يكُونَ اعتداءً على قافلة؛ لأنَّ المستهدف كان التَّضامن ذاته والرَّغبة في إنقاذ مَن يُحاصرهم الجوع والنَّار، لقَدْ قصدتْ دَولة الاحتلال الإرهابيّ إرسال رسالة واضحة، مفادها أنَّ يد المساعدة ستعرَّض للخطر، كما تقصف المساكن، وأنَّ الحصار صُمِّم لِيعملَ كأداة لإخضاع إرادة أُمَّة وسلبِ كرامتها، والصَّمت الدّولي أمام هذه الجريمة يكشف زيف ادِّعاءات النِّظام العالَمي حَوْلَ حماية الضُّعفاء، ويثبتُ أنَّ القانون يفقدُ قِيمته عِندَما يُطبَّق انتقائيًّا حسب هُوِيَّة الضحيَّة.. فمشهد القرصنة يحفر حقيقةً واحدة لا تنطفئ، وهي أنَّ البحر الَّذي يُفترض أنْ يحملَ الحياة صارَ شاهدًا على انحدار الأخلاق الدّوليَّة.

ذلك الصَّمت الَّذي أحاطَ بجريمة القرصنة يعكس أنَّ ما حدَث في البحر يُمثِّل حلقةً جديدة ضِمن سياسة متجذِّرة لدَى قوَّة الاحتلال. فاعتداء الأسطول أعادَ إلى الذَّاكرة هجوم 2010م الَّذي راحَ ضحيَّته مدافعون عن الحقِّ في إيصال الغذاء إلى غزَّة، وهو تذكير بأنَّ المنهج ثابت والممارسة مستمرَّة، والتّكرار يكشف عن إرادة ممنهجة لرفضِ أيِّ رقابة دوليَّة وتحويل الممرَّات البحريَّة إلى مجال نفوذ مغلق أمام الجهود الإنسانيَّة! فدَولة الاحتلال الصهيوني تتعامل مع قواعد القانون الدّولي كأدوات بلا قِيمة؛ إيمانًا مِنْها بأنَّها خارج منظومة العقاب والحساب والمساءلة، ما يجعل كُلَّ محاولة لكسرِ الحصار هدفًا للقمعِ حتَّى لو جاءتْ محمَّلة بالخبز والدَّواء، فكُلُّ حادثة تُضيف دليلًا على عقليَّة ترى في الشَّاهد والموصل خطرًا يَجِبُ إسكاته، فتُمعن في التحكُّم بالمجال البحري كما تتحكم بالممرَّات البَرِّيَّة والجوِّيَّة، وهنا البحر صار مرآةً تكشف طبيعة الصِّراع، فهو صراع بَيْنَ إرادة حياة تُقاوِم وحصار يصمُّ الآذان عن صوت الأنين.

من هذه المرآة البحريَّة تتضح صورة الحصار الموحَّد الَّذي يستهدف كُلَّ سُبل الحياة في غزَّة، فالعقليَّة الصهيونيَّة الَّتي تعترض سُفن الإغاثة، هي نفس العقليَّة الإرهابيَّة، الَّتي تهدم المستشفيات وتقطع الماء والكهرباء وتعرقل إدخال الوقود والدَّواء، فتتحوَّل المدينة إلى مشهد يومي من الطَّوارئ المستمرَّة، ويكمل الحصارُ البحري الحصارَ البَرِّيَّ والجوِّيَّ لِتنتجَ منظومة تشنُّ حربًا على شروط البقاء، فمناعة مُجتمع تُنهك، واقتصاد محلِّي يقوَّض، وبنى أساسيَّة تختلُّ وتتعطل خدمات أساسيَّة، والموانئ تتحوَّل إلى حدود خوف، والمياه إلى حاجز يمنع الهواء والغذاء من الوصول..! هذا النَّهج يكشف أنَّ الهدف تجاوَزَ فرض قيود أمنيَّة إلى محاولة منظَّمة لإجهاض الحياة الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، بحيثُ يُصبح الاستمرار في البقاء عملًا بطوليًّا لا أمرًا مُسلَّمًا به، كُلُّ عمليَّة منعٍ في البحر تُعادِل خطوةً على اليابسة في مسار تفريغ الأرض من سكَّانها وإضعاف مقاوَمتهم الوجدانيَّة والعمليَّة. إنَّ ما تشهده غزَّة اليوم يشكِّل مزيجًا من أدوات القتل البطيء والتَّدمير المباشر، إذ تتحوَّل وسائل الحياة اليوميَّة إلى أدوات ضغط وحصار، تشمل إغلاق المعابر الَّذي يقضي على سلاسل الإمداد، وتعطيل المستشفيات يُضاعف عدد الضَّحايا، وانقِطاع الكهرباء يُوقِف عمليَّات إنقاذ المرضى، ومنْعُ الوقود يُجمِّد شبكات الإغاثة، فهذا الاستخدام المتكامل للأدوات المَدَنيَّة في سياق القتال يخلق مأساةً تراكميَّة تؤثِّر في أجيال قادمة؛ لأنَّ أثَرَ التَّجويع والمرض والحرمان يتخطَّى الوقت الحاضر إلى إرثٍ من الجراح الاجتماعيَّة والنفْسيَّة. ولمواجهة هذا المُخطَّط هناك خطوات عمليَّة واضحة، تبدأ من التَّوثيق الشَّامل للانتهاكات، مرورًا بتحريك آليَّات مساءلة دوليَّة فعَّالة، وتنسيق إغاثي محمي يَضْمن وصول المواد الأساسيَّة، بالإضافة إلى حشدِ رأي عامٍّ عالَمي يرفض الحقد الصُّهيوني الَّذي تحوَّل لسياسة لدولة الاحتلال المارقة، ففي قلب هذا المشهد ثمَّة يقين لا يتزعزع، وهو أنَّ كسر الحصار ودعم حياة النَّاس ليس تفصيلًا سياسيًّا، إنَّه واجب إنساني وأخلاقي يختبر ضمائر الأُمم، ويُحدِّد مصداقيَّة القِيَم الَّتي يدَّعيها العالَم.