الجمعة 03 أكتوبر 2025 م - 10 ربيع الثاني 1447 هـ

في العمق : كبار السِّن.. وفاءٌ لا يُرد ووصيَّة حياةٍ لن تسقط بالتقادم

في العمق : كبار السِّن.. وفاءٌ لا يُرد ووصيَّة حياةٍ لن تسقط بالتقادم
الثلاثاء - 30 سبتمبر 2025 01:13 م

د.رجب بن علي العويسي

30


إنَّ الحديث عن كبار السِّن «آباءنا وأُمَّهاتنا، أجدادنا وجداتنا، أعمامنا وعماتنا، أخوالنا وخالاتنا، عزنا وفخرنا، حياتنا، بركتنا، بيوتنا، مساكننا، تراثنا، إرثنا، شغفنا، أصولنا»، ليس حديثًا عابرًا، فموقعهم لن يسده أحده ومكانتهم لن يرتقي إليها غيرهم، ما أعظمها من كلمة، وأجملها من وصف؛ إنَّهم الكبار في قدرهم وشأنهم وموقعهم وحضورهم، العظماء الأجلاء في وصفهم وصفتهم، من سهروا على تربيتنا وتنشئتنا وتعليمنا، وقدموا لنا ما نحتاج بدون مقابل لنصل إلى هذه المرحلة من العمر، عملوا وكدوا واجتهدوا وتعبوا من أجل توفير لقمة العيش لنا، سهروا الليالي من أجلنا، ضحوا بحياتهم من أجل استقرارنا، تحملوا عبء الحياة وضنك العيش من أجل أن نعيش سعداء، بذلوا الغالي والنفيس من أجل تعليمنا وصحتنا، إنَّهم البركة الَّتي تروي الحياة حبًّا ونعمة، والوفاء الَّذي لن تجازيه السّنون، والمبدأ الَّذي لن توفيه الأيام، ولن تمسح أثاره تقادم الأعوام وتسارع الأحداث، لتتجه مسؤوليتنا إليهم ليس امتنانًا منا لهم أو استعطافًا لضعفهم أو إرضاء لأنفسنا أمام الآخرين ببرنا بهم، بل حقهم واجب وفضلهم كبير وهو أكبر من اختزاله أو اختصاره في رعايتهم وهم في الشيخوخة وضعف الحال فهم أجلّ قدرًا وأسمى مكانًا وأعظم بركة.

إنَّ مسؤوليتنا المنافسة في برهم، والإحسان إليهم، ورعايتهم وتلبية احتياجاتهم، وتقديم العون لهم والإنصات إليهم واحتوائهم، وزيارتهم ووصلهم، والالتزام بهم، والاهتمام بقدرهم، والحديث معهم والاستماع لهم والإنصات إليهم والنظر فيهم والضحك معهم، والابتسامة في وجههم، والبشاشة في حديثهم، وحِس الذوق في التعامل مع مشاعرهم، واللطف في مخاطبتهم، والاستمتاع بوجودهم، وإشباع القلب والعقل والنظر بهم، ومساعدتهم بكل الطريق ليعيشوا حياتهم أصحاء معافين، وفي حياة ملؤها الأمان والاحتواء والرعاية النفسيَّة والصحيَّة لهم، وعدم التواني في تقديم كل ما من شأنهم أن يحافظ على صحتهم النفسيَّة والفكريَّة، وحميميَّة التواصل معهم، والاقتراب من واقعهم، والجلوس في مجالسهم والشبع من ضحكاتهم وأوصافهم وحكاياتهم، وتقريب صورة زمن الطيبين وسرد ما فيها من أحداث جميلة وحكايات أجمل ومواقف طريفة لأجيال اليوم، وسرد الحياة المعيشيَّة الَّتي كان يعيشها الآباء والأجداد والفرص الَّتي تحققت للإنسان العُماني في عصر النهضة الحديثة، وما يصحب هذا الحوار من انجذاب وإنصات وتوافق، رغم تباين القناعات وتغاير مسارات التفكير حول بعض القضايا الَّتي تهم جيل الشباب أو غيرهم، إنَّها مسؤوليَّة لا تقف عند مرحلة معينة، وما هم فيه اليوم من بلوغ سن الكبار إنَّما هي دورة حياة تأتي على الجميع ويصل إليها الكل ـ إن كتب الله العمر إلى تلك اللحظة ـ.

إنَّ في رعاية كبار السِّن واحتواءهم حياة متجددة تستنهض حياة الضمير في زمن العقوق، وتستنطق المروءة والفضيلة والبر والإحسان، وتؤصل نهج التسامح والسلام الداخلي، والتقارب الروحي، وغرس العروة الوثقى لبناء مُجتمع يحفظ للكبار موقعهم في سلم الحياة ومكوِّنات الأسرة، مُجتمع تنمو فيه ثقافة الحقوق، وتتحقق فيه فرص المنافسة في خدمة الكبار، والالتزام نَحْوَهم، وتقدير وجودهم، واحترام إنسانيتهم، والمحافظة على أمنهم وسلامتهم، والبحث عن كل الفرص الإيمانيَّة الَّتي يتقرب بها الإنسان من ربه برعايته لوالديه، في عبادته وشكره، وذكره ودعاء، وصبره واحتسابه وصدقته، فيحسن إليهم بصدق، ويقدر ظروفهم بوعي، ويتصبر في الوفاء باحتياجاتهم إن بلغوا من الكبر عتيًّا بحيثُ لا يستطيعون القيام بشؤونهم، ثقة وإيمانًا ويقينًا بكرم الله عليهم وفضله فيرفع من مساحة التواصل معهم، ويستقطع الوقت الكافي للحديث إليهم، والاستمتاع معهم، والالتصاق الروحي به، والتعرف على أخبارهم، وبقاء هاجس النفس تستشعر ظروفهم، ويومهم وغدهم، وفرحهم وحزنهم حتَّى مع وجود من يقوم برعايتهم.

ونحن نستحضر هذه المواقف ونقف موقف المتأمل لحركة الحياة وأحداثها، ونتأمل في حياة كبار السِّن أو أولئك الَّذين وصل بهم العمر إلى سن الشيخوخة ولم يعودوا بالقوة نفسها، نستحضر تلك السِّنوات الَّتي كنَّا نحن في أحضانهم، نتربى في عزهم ودلالهم، نأكل ونشرب ونستمتع في زحام نعمهم وخيراتهم، نمد أيدينا إلى ما صنعوه لنا بأيديهم وعرق جبَيْنَهم بلا استئذان، نستمتع بما وجدناه بدون أن نسأل كيف وصل؟ بل قد نتعامل معه بشيء من التبذير والإسراف واللامبالاة دون أن نكلف أنفسنا شيء في إحضاره، بل نستذكر انتظارهم لنا عندما نتأخر عن وجبه الغداء والعشاء، والخيارات الَّتي يصنعونها لنا حينما لا نرغب في أكل أو اشتهاء طعام ما، لنتأمل مواقفهم وهم يسألون عنا عندما تطول مدة غيابنا عنهم منشغلين عنهم بأعمالنا .. ولسان الحال هل ستأتون هذا الأسبوع، مشتاقين لكم، تعالوا عملنا لكم وليمة.. ما أعظمها من مواقف وما أصدقها من تعابير، وما أنبلها من إنسانيَّة، وما أسعدها من لحظات. إنَّ هذه الأحداث والمواقف تدعونا إلى التفكير مليًّا والانتظار برهة لاستعادة ذكريات السِّنين واستحضار ما نسيناه أو تناسيناه من رعاية من اطلقنا عليهم اليوم» كبار السِّن «، نحن اليوم بحاجة للاحتفال بكبار السِّن ليس في الأول من أكتوبر من كل عام، بل أن نصنع للاحتفال بهم أيامًا كثيرة حتَّى نقف على عطائهم ونسعد بالاعتذار منهم، ونقدم أبسط الجميل لهم دَين علينا بما سقط من خف أقدامهم، أبعد هذه العشرة والحياة الَّتي عشنا فيها أمانًا واحتواء واحتضانًا محمولين مزمولين من أن ندفع قيمة فاتورة الماء والكهرباء والغاز، من أن نصلح ما تسببنا في تخريبه وتضييعه.

إنَّنا في وطننا سلطنة عُمان ندرك حجم ما يحظى به إنسان هذا الوطن من عظيم رعاية وكريم عناية، ولم يكن كبار السِّن بمعزل عن هذا المسار الوطني العظيم والجهد المؤسَّسي النوعي، بل شكَّلوا مع مختلف فئات المُجتمع الأخرى أساس هذه الملحمة الوطنيَّة الَّتي تضع الإنسان في أولويات الأولويات، إنَّها تجسيد عملي لفلسفة بناء الإنسان في عُمان، وإنَّ من عظيم التقدير وجميل الفخر ما نشهده من دور محوري وجهد نوعي لوزارة التنمية الاجتماعيَّة مشكورة، سمته التجديد والابتكار والتطوير والاستفادة من كل التجارب الدوليَّة الناجحة واستحضار الهُويَّة والقيَم والسَّمت العماني لتتشكل مائدة لبناء سياسات وطنيَّة ناضجة في رعاية كبار السِّن وتقديم منظومة متكاملة من الخدمات الرعائيَّة والاجتماعيَّة والصحيَّة والنفسيَّة لكبار السِّن، والَّتي تتجسد في منظومات عدة يُمكِن اختصارها في ثلاثة مرتكزات أساسيَّة هي: دار الرعاية الاجتماعيَّة بالرستاق الَّتي تضم بنهاية عام 2024 (46) من كبار السِّن؛ وبرنامج الرعاية المنزليَّة للمسنين، من خلال تقديم عدة خدمات نوعيَّة منها: الرعاية المنزليَّة، والأُسرة البديلة، وتمكين وتدريب الأُسر، والتوعية المُجتمعيَّة، بالإضافة إلى المرتكز الثالث: تقديم المساعدات والدعم المالي لكبار السِّن، حيثُ بلغ عدد كبار السِّن وأُسرهم المستفيدين من الخدمات الاجتماعيَّة المقدمة لهم في عام 2024 (8.710)، يضاف إلى هذه الجهود لكبار السِّن، المنتفعون من منظومة منافع الحماية الاجتماعيَّة والذبَيْنَ بلغ عددهم (173.783) حتَّى أغسطس لعام 2025 . محطات نستحضر فيها موقع كبار السِّن في النسيج الاجتماعي واستحقاقاته في المكوّن الأسري، لتؤكد في الوقت نفسه أنَّ رعاية كبار السِّن، ليست مجرد واجب مؤسَّسي بل رؤية إنسانيَّة عميقة تتجذر في نسيج المُجتمع العماني، وأنَّ كبار السِّن هم جزء أصيل من مسيرة البناء الوطني، وأنَّ حمايتهم ليست مجرد مسؤوليَّة قانونيَّة، بل واجب وطني وأخلاقي وروحي. لذلك لا يَجِبُ أن تكُونَ هذه الفرص والبرامج الرعائيَّة والخدميَّة مساحة للتخلي عن رعاية كبار السِّن واحتضانهم والوفاء لهم واحترام حقهم واستشعار تربيتهم وتعظيم قدرهم ورد جميل رعايتهم وتنشئتهم، نحفظ الود، ونرعى العهد، ونؤصل القدوة، ونرقى بالممارسة، فلا تفقدنا التقنيَّة والمنصات الرقميَّة وأشغال الحياة عن زيارتهم، أو تسلبنا حقوقهم، أو تنسينا واجباتنا نَحْوَهم، فما أعظم البِر في وصلهم، وما أسعد الحياة برؤيتهم، وما أصدق الحب بحضنهم، وما أجمل المواقف بابتسامتهم وضحكتهم. أسأل الله أن يحفظ من عاش منهم وأن يبارك في أعمارهم وأن يزرع فينا برّهم ورعايتهم والإحسان إليهم، كما أسأله تبارك وتعالى أن يرحم من غادر منهم الحياة الفانية، روح وريحان وجنة نعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]