تطرقنا بالمقال السابق عن نظام الأسبقيَّة وكيفيَّة تطوره بَيْنَ المُجتمعات الغربيَّة والشرقيَّة ومدى الاختلافات في نظام الأسبقيَّة بَيْنَ مناصب ووظائف الدول من حيثُ تركيبة المُجتمع.. فكما هو معروف في المُجتمع العربي هناك رؤساء قبائل وعشائر تاريخهم يمتد مع تاريخ الأرض، فهؤلاء لا يُمكِن أن يجلسوا في الصف الثاني أو الثالث في حضور الفعاليات والأنشطة الرسميَّة بحجة هؤلاء ليس لديهم حقائب وزاريَّة أو ليس بمنصب أو مكانة وكيل الوزارة أو المدير العام.
سوف نثري القارئ بصورة مختصرة في هذا المقال والشخص المسؤول في المراسم أو التشريفات أو العلاقات العامة كيفيَّة الاهتمام بموضوع مفاهيم نظام الأسبقيَّة، وعدم الوقوع في شراك وشبكة المعلومات الغربيَّة أو الصادرة من المدارس الأجنبيَّة المتخصصة بذلك. المُجتمع العربي بصورة خاصة والمُجتمع الإسلامي بصورة عامة يختلف كثيرًا بنوع شرائح المُجتمع حتَّى في عدد المذاهب الإسلاميَّة ورجال وعلماء الدِّين، بالإضافة إلى الوزارات السياديَّة والدرجات الخاصة والعائلة المالكة والرؤساء والوزراء والوكلاء والسفراء.. وغيرها الَّتي تقع ضمن فئة (VVIP & VIP).
يقسم بروتوكول وإتيكيت نظام الأسبقيَّة إلى عدة أنواع، وكذلك حسب أوقات فصول السّنة. فعلى سبيل المثال، في فصل الربيع تعمل الأنشطة والفعاليات في الهواء الطلق أو خارج القاعات المغلقة، ويكُونُ شكل وأنواع الطاولات مختلفة عن القاعات الداخليَّة، وبالتالي حتَّى عدد الحضور يختلف، بالإضافة إلى وقتها سواء كانت الاحتفاليَّة نهارًا أو ليلًا.
بروتوكول وإتيكيت نظام الأسبقيَّة لا يقتصر على إتيكيت الفعاليات الرسميَّة بتسلسل الجلوس ونوعيَّة ومناصب الحضور، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، ألا وهو نوعيَّة الخطابات الرسميَّة، حيثُ تم تصنيفها إلى عدة أنواع استنادًا إلى أهميتها وطبيعتها وسريَّة المعلومات ومنها (سرِّي للغاية، سرِّي وعاجل، سرِّي وشخصي، سرِّي وفوري، عاجل، الأوامر الإداريَّة الداخليَّة.. وغيرها) لا مجال لذكرها، ولكن الَّذي يَمسُّ مقالنا هذا. فلا يجوز في بروتوكول وإتيكيت أسبقيَّة إرسال دعوة حضور فعاليَّة لمدير العام قبل وكيل الوزارة أو من هو بمنصبه؛ لأنَّ ذلك سوف يتسبب بزعل الثاني، واحتمال يعتذر بسبب مفاضلة الأول على الثاني، وهذا خطأ لا يُمكِن القَبول فيه.
مفاهيم بروتوكول وإتيكيت حضور وإعداد وتنظيم نظام الأسبقيَّة ليس ابتكار الساعة، وكذلك هو ليس من تأسيس وإصدار المدارس الدبلوماسيَّة الأجنبيَّة على مختلف مسمياتها، بل هو جاء بالمسلّات الطينيَّة الموجودة في المتحف الوطني البريطاني والمتحف الفرنسي (متحف اللوفر) والَّتي تعود إلى حضارة وادي الرافدين (السومريون، البابليون.. وغيرهم) وكذلك حضارة مصر العربيَّة (الفراعنة)، حيثُ نشاهد أسبقيَّة الجلوس عند الملك والأقرب ثم الأبعد حيثُ العائلة من الدرجة الأولى (الزوجة والأطفال)، النبلاء، العلماء، رجال الدِّين، القادة العسكريون، رجال المال، التجار، المقربون من الملك ثم حاشية الملك.
في عصر الحضارة الإسلاميَّة وفي العصر الذهبي للدبلوماسيَّة الإسلاميَّة تطرق القرآن الكريم إلى عدة آيات كريمة تدلل على أنَّ الدِّين الإسلامي قبل أكثر من (1440) عامًا تطرق إلى بروتوكول وإتيكيت نظام الأسبقيَّة، قال تعالى في سورة الواقعة: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ)، كما قال تعالى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة ـ 253).
والمدرسة النبويَّة الشريفة عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون). من خلال هذه الأُسُس والسِّمات اشتقت وطوَّرت المدارس الدبلوماسيَّة مفاهيم نظام الأسبقيَّة استنادًا إلى التطور الحضاري والحكومي والاجتماعي، لذلك يُعَدُّ هذا النظام من أهم أنواع الإتيكيت الحكومي؛ لكونه يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه والاستحقاق الوظيفي والاجتماعي.
إنَّ إتيكيت نظام الأسبقيَّة بالجلوس بصورة عامة، سواء كانت الكراسي على شكل خطوط مستقيمة أو طاولات دائريَّة فإنَّ راعي الحفل (الضيف) يتوسط المكان وأمامه طاولة توضع باقة زهور طويلة على سطحها ذات (لونين أو ثلاثة) الورد البرتقالي: يشير الورد البرتقالي إلى الفخر والشموخ والنقاء، والورد الأحمر: يشير على وجود مشاعر الحُبّ والمحبة والاحترام والتقدير، والورد الأبيض: يشير إلى مشاعر الحُبّ الصادق باختلاف أنواعه، ولا يزيد عدد الزهور أكثر من (10) زهور ويجلس المستضيف على يسار راعي الحفل، ويفضَّل أخذ الأسبقيَّة من دائرة المراسم في وزارة الخارجيَّة أو الديوان هرم الدولة لمعرفة المستجدات في المناصب، ولا ننسى أبدًا أهميَّة وأسبقيَّة رجال وعلماء الدِّين، وكذلك رؤساء وشيوخ القبائل الَّذين لديهم قاعدة جماهريَّة وشَعبيَّة ومؤثرة في المُجتمع.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت