تُمثِّل السياحة في سلطنة عُمان في الوقت الراهن أكثر من قِطاع اقتصادي واعد، فهي انعكاس لرؤية وطنيَّة تسعى إلى إعادة تعريف التنمية من منظور يقوم على تنويع مصادر الدخل، وتعزيز الاستدامة، وتوظيف المكان والإنسان في صياغة تجربة متكاملة. فمنذ سنوات، وضعت رؤية «عُمان 2040» هذا القِطاع في قلب استراتيجياتها؛ باعتباره قادرًا على خلق قيمة مضافة تتجاوز العائد المالي، لتشمل فرص العمل، وتنشيط الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وترويج الهُوِيَّة الثقافيَّة، وأصبح الحديث عن تطوير السياحة مرتبطًا بصناعة منظومة متكاملة تستثمر الجغرافيا المتنوعة للبلاد، من جبال وبحار وصحاري وواحات، وتحوِّلها إلى منتجات سياحيَّة قادرة على المنافسة في أسواق إقليميَّة وعالميَّة، هذا التحوُّل الاستراتيجي بدأت السلطنة ترسم ملامحه عمليًّا عبر مبادرات وملتقيات ومواسم سياحيَّة متجددة، تفتح الباب أمام تجربة أكثر ابتكارًا وتكاملًا مع باقي القِطاعات الوطنيَّة.
ويأتي ملتقى السياحة الاستشفائيَّة الَّذي نظَّمته وزارة التراث والسياحة ليجسِّدَ هذا التحوُّل من الخطط إلى التنفيذ، حيثُ تمَّ طرح منتج جديد يقوم على الدمج بَيْنَ الصحَّة والطبيعة والضيافة، ويفتح هذا النوع من السياحة آفاقًا لتجارب متكاملة تُعزِّز الصحَّة البدنيَّة والنفسيَّة، وتستند إلى مُقوِّمات طبيعيَّة متفردة مثل العيون الحارَّة والجبال والقرى الجبليَّة، ولم يكُنِ الملتقى مناسبة احتفاليَّة بقدر ما كان إعلانًا عن دخول السلطنة مجالًا عالميًّا متناميًا، تشارك فيه مؤسَّسات فندقيَّة وأكاديميَّة وصحيَّة، وتدعمه مبادرات من روَّاد الأعمال المحليين بما يُعزِّز المحتوى الوطني في هذه الصناعة، كما أنَّ عرض التجارب الدوليَّة من إندونيسيا وكرواتيا وأوروبا الشرقيَّة أظهر أنَّ سلطنة عُمان تسعى إلى استلهام أفضل الممارسات العالميَّة وتطويعها، بما يتناسب مع خصوصيَّتها الثقافيَّة والجغرافيَّة، لِتضعَ نفسها في موقع تنافسي قادر على اجتذاب فئات جديدة من السياح الباحثين عن العافية والهدوء في وجهة آمنة ومستقرة.
وإذا كان ملتقى السياحة الاستشفائيَّة قد فتح الباب أمام منتج جديد يُعزِّز مكانة السلطنة كوجهة للعافية، فإنَّ انطلاق الموسم الشتوي في محافظة مسندم يعكس الوجه الآخر لمنظومة السياحة العُمانيَّة الَّتي تراهن على تنويع التجارب والوجهات. فالمحافظة بما تمتلكه من خلجان وجبال شاهقة ومسارات بحريَّة فريدة تقدِّم نموذجًا حيًّا للسياحة الموسميَّة الَّتي تستثمر المناخ الشتوي المعتدل، لتقديم أنشطة بحريَّة وجبليَّة تستقطب الزوار من داخل السلطنة وخارجها. هذا الموسم يُمثِّل خطوة عمليَّة لتوظيف التنوع الجغرافي كعنصر أساسٍ في صياغة منتجات سياحيَّة متكاملة، إذ يتكامل مع السياحة الاستشفائيَّة وغيرها من المبادرات ليؤكِّدَ أنَّ السلطنة تراهن على حزمة من المنتجات المتنوعة القادرة على تلبية احتياجات شرائح متعددة من السياح. ويكتسب موسم مسندم بُعده الاستراتيجي؛ كونه يقدِّم صورة عن كيفيَّة تحويل الطبيعة إلى قيمة اقتصاديَّة مستدامة تعود بالنفع على المُجتمعات المحليَّة والاقتصاد الوطني. ومن خلال هذا التنوع الَّذي تجسِّده مسندم في موسمها الشتوي، يصبح الحديث عن مستقبل السياحة الوطنيَّة مرتبطًا بالقدرة على تحويل هذه التجارب إلى قيمة محليَّة مستدامة. فالمحتوى الوطني أصبح عنصرًا رئيسًا في بناء منتج سياحي أصيل يعكس هُوِيَّة المكان، ويضمن توزيع المنافع على المُجتمعات القريبة من المواقع السياحيَّة، كما أنَّ إدماج المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع المنتجات الطبيعيَّة والعطريَّة، وتفعيل الإقامات الريفيَّة، كُلُّها أدوات تجعل المواطن شريكًا مباشرًا في هذه الصناعة، وتمنح السياحة بُعدًا اجتماعيًّا إلى جانب بُعدها الاقتصادي. وفي ظلِّ عالم تحتدم فيه المنافسة في هذا القِطاع الحيوي، تُمثِّل الاستدامة البيئيَّة المعيار الأهم لجذب السائح الواعي الباحث عن وجهة آمنة ومسؤولة، وهو ما تعمل عليه السلطنة من خلال الاستثمار في الطاقة المتجددة وإدارة الموارد الطبيعيَّة بحكمة، وبهذا تتحول المنظومة السياحيَّة إلى لوحة متكاملة تربط الصحَّة بالطبيعة، والإنسان بالمكان، لِتصنعَ لِنَفْسها موقعًا راسخًا في الخريطة العالميَّة للسياحة المستدامة.