الاثنين 16 سبتمبر 2024 م - 12 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

«العُمانيون والتدافع الاستعماري على إفريقيا»

«العُمانيون والتدافع الاستعماري على إفريقيا»
السبت - 02 مارس 2024 06:13 م

سعود بن علي الحارثي

60


ما أن يصلني خبر عنوان جديد صدَر لباحثٍ غربي، بتقديم وترجمة الشَّيخ محمد بن عبدالله الحارثي، حتَّى يشدَّني الفضول، وتستبدَّ بي الرَّغبة اللَّحوحة وتستبقَني الأسئلة المستوضِحة عن الكِتاب، وكيفيَّة الحصول على نسخة مِنْه؟ وفي أيِّ مكتبة يُباع؟ وهل سيكُونُ في معرض الكِتاب...؟ وأنا في لهفة لالتهام ما تحتويه صفحاته من توثيقات وأسرار وقراءات عميقة وسرْد وملاحظات لتاريخ عُمان المَجيد، الغنيِّ بالأحداث والتَّشابكات، المليء بالتَّداعيات والصِّراعات وصوَر المطامع وتكالبات المستعمِر ومؤامرته... وتفاصيل حياة العُمانيِّين ومغامراتهم وأمجادهم وإنجازاتهم المضيئة عَبْرَ صفحات الزَّمن ومراحله المختلفة ـ يشدُّني الفضول وتستبدُّ بي الرغبة ـ كوني أدرك القِيمة العالية والمحتوى الغنيَّ والاختيار الذَّكيَّ البارِع للكتب الَّتي ينتقيها المترجِم، وبعناية ووعيٍ وإرادة صلبة، باذلًا الجهد أعلاه لوضعِ هذه الكتب في يَدِ القارئ العربي، سواء كان باحثًا عن المعرفة، أو مستكشفًا مستطلعًا لزوايا وآراء واجتهادات ومصادر أخرى للتَّاريخ، ضِمْن المشروع الواعد، الضَّخم والدَّسم، النَّامي باستمرار، الَّذي أطلقه محمد الحارثي، قَبل سنوات بترجمة وطباعة «موسوعة عُمان ـ الوثائق السِّرِّيَّة»، على نفقته الخاصَّة، وألْحَقها بطباعة أخرى جديدة ومنقَّحة ومُضاف عَلَيْها وثائق أخرى حديثة، أعددْتُ حَوْلَها مقالًا نشرَته هذه الجريدة الغرَّاء (الوطن)، هذا إلى جانب موسوعتَيْنِ هما «يوميَّات المقيميَّة في الخليج والوكالة السِّياسيَّة في مسقط». و»النفط والحدود في دوَل الخليج»، بالإضافة إلى دراسات وكتُب أخرى، كان من أهمِّها «ظلُّ السُّلطان»، قدَّمتُ عَنْه هو أيضًا، إضاءة في أحَد مقالاتي المنشورة. الجديد في مشروعات محمد الحارثي كتابان تمَّ عرضُهما لأوَّل مرَّة في معرض الكِتاب الَّذي أسدل السِّتار يوم أمس، هما: «عُمان بناء دَولة عصريَّة»، و»العُمانيُّون والتَّدافع الاستعماري على إفريقيا»، للباحث «جون ويلكينسون»، الَّذي أنهيتُ قراءته قَبل أيَّام. يسعى مترجِم هذه المشاريع المهِمَّة جدًّا للباحثين والقرَّاء وطالبي المعرفة، إلى رصد ومراجعة وتقييم وترجمة الوثائق والمدوَّنات والمؤلَّفات والدِّراسات الَّتي أعدَّها وكتبَها باحثون وأكاديميون غربيون، عن تاريخ عُمان خصوصًا والمنطقة العربيَّة ـ الخليجيَّة على وَجْه العموم، كاشفًا اللّثام عن الوَجْه الاستعماري المقِيت للمنطقة، والدَّوْر الخبيث الَّذي مارسته قوى الاستكبار في بثِّ الفِتَن ونسج المؤامرات لإضعاف الدَّولة العُمانيَّة المترامية الأطراف، وتفكيكها وتقسيمها، وتفنيد ونفي المزاعم والاتِّهامات الَّتي تبثُّها... في حقِّ العُمانيِّين، والادِّعاء بأنَّهم قوَّة مستعمِرة مارست هيمنَتها واستبدادَها على مناطق شرق إفريقيا، وبأنَّهم تجَّار رقيق قُساة، ومكرُوهِين من الأفارقة، وتضخيم الخلافات بَيْنَ ورثَة الحُكم من آل بوسعيد، وتصحيحها بالحجج والبراهين؛ لإثبات أنَّ تلك الأقاويل والإشاعات لَمْ يكُنْ غرضُها سوى إلحاق الأذى والتَّآمر على الدَّولة العُمانيَّة بغرض تمزيق أوصالها.. لأغراض ومقاصد استعماريَّة، وإضاءة جوانب مهِمَّة من التَّاريخ، عاشَتْ ردحًا من الزَّمن في عتمة التَّغافل والتَّجاهل، ومسكوتًا عَنْها لأسباب مختلفة، تعلن بجلاء عن الإنجازات الحضاريَّة والقِيَم الإنسانيَّة المُشرِقة للعُمانيِّين... «وكان العُمانيُّون منذ البدء عنصرًا مُهِمًّا جدًّا في هذا التَّأثير. لَمْ يكُونُوا غزاة، بل شكَّلوا جزءًا مكمِّلًا لمُجتمع شرق إفريقيا قَبل وقتٍ طويل من عهدَي اليعاربة والبوسعيديِّين...». فيما «استغلَّت القوى الأوروبيَّة تجارة الرَّقيق لتطويق وتقليص الأراضي العُمانيَّة في شرق إفريقيا، الَّتي وصلت مع نهاية عهد سعيد إلى أعالي الكونغو...». وقَدْ حفَّزت هذه المشاريع، حقيقةً، الباحثين والمؤرِّخين والكتَّاب للمُضي قُدُمًا في إنجاز مشاريعهم البحثيَّة وإصدار مؤلَّفاتهم، الَّتي اعتمدت في الكثير من مراجعها على الأعمال الَّتي ترجمها الحارثي، مُشكِّلةً مادَّةً غزيرة ومصدرًا غنيًّا بالمعلومات عن تاريخ عُمان السِّياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي بتفاصيله الدَّقيقة، الَّتي تُعنى حتَّى بالحياة الشخصيَّة للإنسان وثقافته وبرنامجه اليومي وأنماط سلوكيَّاته وعاداته وتقاليده ومذاقات وأصناف مائدته، وملبسه ومصادر غذائه، والأدوية والعلاجات الَّتي يستخدمها للتَّعافي من أمراضه ومصادر المياه ومستويات الأمطار ومناسيبها وعوائد، وكميَّات حصاد النخيل، وعن الجبال والأدوية والثروات الطبيعيَّة والأوبئة والجوائح الَّتي تعرَّضت لها البلاد، وأنساب القبائل والتَّحالفات القبليَّة وأسماء الشيوخ وأعطياتهم والولاءات والمذاهب ودَوْر المرأة في الحياة العامَّة وخصائص علاقتها بالرَّجل... تزيد صفحات كِتاب «العُمانيُّون والتَّدافع الاستعماري على إفريقيا» عن سبعمئة ورقة، تناولَت وعالجَت أهمُّ فصوله «العلاقات السِّياسيَّة في عُمان وإفريقيا»، و»توغُّل العرب المبكِّر في البَرِّ الإفريقي»، ومغامرات وبطولات العُمانيِّين في الاستكشاف والبحث عن مصادر وأسواق جديدة. «انطلق المعمري والخروصي والصوري، في اتِّجاه الغرب لمدَّة ستَّة أشْهُر ليجتازوا نهرًا تلوَ الآخر، ويتسلَّقوا التِّلال ويجتازوا الوديان، وسط الوحوش الضَّارية، والفِيَلَة الضَّخمة والمتوحِّشين آكلي لحوم البَشَر، الَّذين ما إن رأوا القوم بأثواب وألوان مختلفة حتَّى ظنُّوا أنَّهم منحدرون من السَّماء...». وأبانَ الكِتاب كذلك، عن خصائص شعوب تلك المناطق، وأبرز القبائل العُمانيَّة المهاجِرة إلى الشَّرق الإفريقي، وإصلاحاتهم الزراعيَّة والتجاريَّة وما تبوؤه من مكانة رفيعة، و»تنامي النُّفوذ البريطاني» و»التَّغلغل الألماني» و»دَولة الكونجو المُستقلَّة»، وتفاصيل الأحداث والتحوُّلات والثَّورات الَّتي شهدتها المنطقة، والمقارنة بَيْنَ «النموذج الاستعماري العُماني»، الحضاري الَّذي خلَّص شعوب شرق إفريقيا من نير الاستعمار البرتغالي، وأسْهَم في الازدهار السِّياسي والاقتصادي والثقافي وترسيخ قِيَم التَّعايش والتَّسامح والاستقرار، وبَيْنَ استعمار القوى الغربيَّة المتوحِّش حيث «تسبَّبت المجاعة والضَّرب المتكرر باعتلال الرِّجال حتَّى برزت عظامهم وضمر لحمُهم كلِّيًّا وأصبحوا أشْبَه بهياكل عظميَّة. أمَّا الرِّجال الَّذين كانوا عاجزين عن الوقوف فقَدْ عوقبوا مع ذلك يومًا بعد يوم. وقَدْ دُوِّن في سجلِّ الأحداث، من قِبل الضبَّاط أنْفُسهم، قصص مُرعبة عن جلدٍ يوميٍّ بالسِّياط وتعذيب»، وطهيٍ وأكلٍ للحمِ البَشَر، مصحوبة بأحداث حقيقيَّة مسجَّلة وموثَّقة. فلا غروَ أن يصفَ «جون ويلكينسون»، الأوروبيِّين، بـ»النِّفاق البَحت، فَهُم بوصفهم أعضاء في «العالَم المتحضِّر» الَّذي استحدَث ما يُسمَّى «القانون الدولي»، لَمْ يكُنْ لدَيْهم خيار إلَّا الاعتراف بإلغاء الرِّق فيما هُمْ يتوسَّعون ويستعمِرون أراضي جديدة وقديمة، لكنَّهم التفُّوا على المُشْكِلة بتوظيف وسطاء محليِّين، فواصلوا بذلك انتزاع واختطاف السكَّان من مواطنهم لإخضاعهم للرِّق تحت ذرائع...» ومصوغات مختلفة. يسلِّط الشَّيخ محمد بن عبدالله الحارثي الضَّوء على هذا الكِتاب في افتتاحيَّته التعريفيَّة: «لقَدْ قام المؤلِّف ـ وعلى مدى عقود من الزَّمن ـ بتحقيقٍ مفصَّل لمختلف المراجع الغربيَّة، وأماط اللّثام عن الكثير من المعلومات الَّتي طواها الزَّمن ويجهل تفاصيلها حتَّى المختصون في العالَم العربي والإفريقي والغربي. وتضمَّن كتابُه تفاصيل الوجود القبَلي العُماني في إفريقيا قَبل التَّغلغل الأوروبي، وأكَّد أنَّ الروَّاد الأوائل الَّذين اجتازوا إفريقيا واستكشفوا مصادر العاج في أعالي نهر الكونغو قَبل وقتٍ طويل من وصول المستكشفين الغربيِّين كانوا جميعًا من العُمانيِّين القادمين من داخل البلاد...». يتَّضح للقارئ كُلَّما توغَّل في صفحات الكِتاب، وأنهى فصوله الواحدة تلوَ الأخرى، أنَّ المؤلِّف قرأَ واستطلَع مراجع ضخمة جدًّا، واجتهد غاية الاجتهاد في جعل دراسته متكاملة، وكان دقيقًا في الملحوظات الَّتي يضعُها، ولَمْ يطمئن إلى مصدر واحد، في معلوماته، فنجده يُلحقه بآخر وثانٍ وثالث، كما تميَّز بسَعة البال والمهارة والنَّفَس الواسع في إنجاز مشروعه. فلا غروَ إذا وجدنا «العُمانيُّون والتَّدافع الاستعماري على إفريقيا» قَدْ لقِيَ إقبالًا لافتًا للنَّظر، وعُدَّ مرجعًا مُهِمًّا للمحاور الَّتي تناولها، ووجدَه القرَّاء منصِفًا موضوعيًّا في قراءاته وآرائه، وهذا ما ميَّز العديد من الكتَّاب والباحثين الغربيِّين، وما أحوج فضاءنا المعرفي والبحثي إلى هذه الدِّراسات الثَّمينة جدًّا والمُنصِفة والموضوعيَّة الَّتي تُقدِّم قراءة مغايرة ومكتشفة لجوانب أخرى من تاريخنا الحضاري المُضيء في العصور التَّاريخيَّة. فشُكرًا للمؤلِّف والمُترجِم على هذه الجهود المقدَّرة.

سعود بن علي الحارثي