الثلاثاء 07 أكتوبر 2025 م - 14 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

الوقف عبادة.. منافعها عظيمة

الأربعاء - 24 سبتمبر 2025 12:30 م


الإنسان حريص بطبعه على ما يملك، شحيح في الجود بما بين يديه، وهذه فطرة البشر كلهم، لكن كل واحد منهم يسارع إلى تعظيم منافعه، وهذا ما يجعل الحياة تمضي بالناس من حرص الأفراد على تعظيم العوائد الشخصية، ومن مجموع ذلك تتحقق المصالح العليا، وتتحقق العمارة في الكون، لكن مبدأ التعويض الذي هو الباعث الأول على العمارة والعمل قد لا تعين عليه ظروف الحياة وتقلباتها، فثمَّ أوضاع في ظروف استثنائية تنزل ببني البشر لا يستطيعون دفعها مع تعاملهم بمبدأ التعويض، فلا الذين نزلت بهم النازلة يستطيعون المغالبة، ولا القائمون بشؤون عامة الناس يملكون تمويلًا يفرضه مبدأ التعويض فيحجم أرباب الأموال عن الدفع، وتنوء مقدرات القائمين على شؤون الناس عن رفع الخصاصة والمسغبة، مما يقضي باستمرار شقاء بني آدم ميسوريهم ومعسريهم في أرضٍ يراد لهم فيها أن يكونوا مطمئنين سعداء.

والسابق حقيقة من الحقائق ماثلة أمام الجميع، وقد تناول الفكر الإنساني ذلك فيما يطلق عليه في عرف الاقتصاد بــ(المشكلة الاقتصادية)، فأُلِّفت فيه الكتب، وأقيمت المنتديات، وقررت السياسات والنظم، وفي ديننا الإسلام دينِ الفطرة أقيمت تشريعاته كلها لتجاوز المشكلة الاقتصادية، فهو ينطلق من حقيقة أن الحياةالكاملة التي (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا ‌وَلَا ‌تَضْحَى) (طه 118 ـ 119) هي حياة جنة المأوى فحسب، أما الحياة الدنيا فحياة السعي والعمارة، ومكابدة ما فيها من لأواء، وهذا السعي لكونه مأمورًا به شرعًا هو ضمن واجب الاستخلاف الذي يعبد الإنسانُ به ربه، فالأرض صنع الله وخلقه، والعباد عُمَّارها، فهم المستأمنون عليها لتكون على أكمل حال، والمستأمِن هو خالقهم وخالق الأرض، ومن أجل ذلك كانت العمارة بذاتها عبادة يرقى بها الإنسان في درجات الكمال الإنساني، وهي الشق الآخر الذي يكتمل به الإنسان ليكون صالحًا لتولي أمانة الاستخلاف، وليكون جديرًا به بعد أن يسلِّم نفسه تسليمًا كاملًا لله فتصفو روحه، ويرقُّ طبعه، ويبعد مدى أهدافه، فلا يكون رهين مصالحه الذاتية ولا الآنية، بل يسعى ليعمَّ نفعه أوسع نطاق زماني ومكاني وفردي، وتكون مشاريعه في أقصى درجات الفاعلية والكفاءة في تعظيم المنفعة الذاتية والمنفعة المجتمعية فـ(الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله).

والشريعة الإسلامية في مختلف تشريعاتها المنظِّمة للحياة كانت تنفخ في العباد روح المبادرة والسعي لمصالح الآخرين، وتَعِدُ الإنسان بالأجور العظيمة والعوائد المحققة في الدنيا والآخرة، ليقوم عائد (الالتزام والتقرب) سببًا يحمل ـ بذاته ـ الناس حملًا على نفع الآخرين والقيام بشؤونهم دون انتظار مكافأة منهم ولا من غيرهم، فلا مطمح سوى أن يرضى الله بفعلهم حين نفعوا عياله تقربًا إليه، وتعرُّضًا لألطافه، واقتداء بصفوة خلقه:(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ ‌جَزَاءً ‌وَلَا ‌شُكُورًا، إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)(الإنسان 8 ـ 12).

والنفوس المتحققة بالإيمان كانت تنفعل انفعالًا أمام هذا المقصد فتسارع إلى نفع الآخرين رجاء برها وذخرها عند الله، وبقدر تحقق الإيمان في النفوس يكون الإنفاق مما بين يدي الإنسان، قال أنس بن مالك: كان أبو طلحة أكثر الأنصار مالًا بالمدينة من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخلها ويشرب من مائها وهو طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية:(لَنْ ‌تَنَالُوا ‌الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران ـ 92)، قال أبو طلحة: إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها لصدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(بخٍبخٍ، ذلك مال رائح يروح بصاحبه إلى الجنة، وقد سمعتُ ما قلتَ،وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين)، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

والعوض الذي طلبه أبو طلحة لا يكلِّف المجتمعات ولا خزائنهم المالية شيئًا لأنه: (أرجو برها وذخرها عند الله)، و(برها وذخرها عند الله) باق ما بقيت نسمة حية على الأرض مع تقلب الأحوال وتغير الظروففحادي الربانيين:(ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل)، وبذلك تخف وطأة التعويض في الاقتصاد المؤمن بهذه الشريعة؛ لأن أفراده ينطلقون لأعمال الخير وعوضهم المنشود مفتوح الخزائن، وهدفهم المخطط لتحقيقه كبير دائم هو الأجر والثواب من رب له:(‌خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(المنافقون ـ 7)، فيسعون للحصول على ما يستطيعون منها، بل يتنافسون ويسارعون فباذل العوض عن إنفاقهم الخيري يناديهم:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)(آل عمران 133 ـ 134).

ولم تقف الشريعة الإسلامية عند هذا الحد من رفع الإنفاق الخيري إلى مصاف العبادة التي تدل على سمو العبد ورفعته عند الله، بل ابتكرت لحفظ الإنفاق دائمًا أبديًا ما لم يأت به أحد قبلها، وأخذت النظم به لضمان ديمومة الوفاء بالحاجات العامة بأن رفعت ملكية الأصول الموقوفة لتكون ملكية لله رب العباد، ومن ذا الذي يستطيع أن يستطيل على ملك الله؟.

وعليه فملكية الأعيان الموقوفة ليست ملكية خاصة بنفوسٍ قد تُقْبِل على الخير في ظروفٍ، وقد تدبر عنه في أخرى، فلا يستقر الوفاء بالحاجات العامة، ولا ينضبط التخطيط السليم له مما يقضي بدوام البؤس والحاجة في بني الإنسان، وذلك ما لا يرتضيه مسلم في الإنسان الذي كرمه ربه سبحانه وتعالى:(وَلَقَدْ ‌كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الإسراء ـ 70)، وهو يعلم أنه بقدر الإتقان في الإنفاق يكون القبول من الله، وبقدر ما يتحقق من نتائج فاعلة على أرض الواقع تفي بالحاجات الحقيقية لابن آدم يعظم الأجر، بل يجري نهرًا متدفقًا بالثواب ما دام الوفاء بالحاجات الإنسانية مستمرًا بسببٍ منه هو:(إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: ‌صدقة ‌جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).. فما أعظمك شريعة الإسلام، وما أسماك في رعاية الإنسان.

ماجد بن محمد الكندي 

 أستاذ مشارك في الفقه وأصوله(قسم العلوم الإسلامية) بجامعة السلطان قابوس