.. فقد بدأت الآية الكريمة بأسلوب قسمٍ، وأركانه هي حرف القسم الواو، والمقسم به، وهو اسم الجلالة المحذوف للعلم به، واليقين عليه، واللام الواقعة في جملة القسم، و(قد) حرف التحقيق الذي دخل على الفعل الماضي، وكلُّه يبيِّن عظمةَ الرسول، ومقامَه، ومكانتَه، فكلها أركان القسم الذي يقسم الله فيه على أمر عظيم، وشأنٍ جليلٍ، وأما جملة جواب القسم فهي:(جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ..)، والفعل (جَاءَ) فعلُ متعدٍّ هنا بمعنى أتاكم، والمد المتصل جاء هنا؛ ليبين مهمته الشريفة، وهي أن الرسولَ الكريمَ صاحبُ دعوة وجهادٍ متصل، لا يعرف الكَلال، ولا يتطرق إليه المَلال، فهو في عمل متواصل، ودعوة متتابعة، وقدَّم المفعول به(وهو الكاف في: «جَاءَكُم»)، وهو كاف الخطاب المجموعة:(كم)؛ ليعجل بالفرحة، وأنه قد جاءهم جميعًا دونما استثناء، فهم مستفيدون جميعًا منه، ومن مولده، ومبعثه الشريف، وتأخير (رَسُولٌ) للاشتياق إلى معرفته، والتشوُّف إلى العلم به، وتنكير (رَسُولٌ) لبيان شمولَ صفاته، وتعددَ أوصافه، واتساعَ خصائصه، وشبه الجملة:(مِّنْ أَنفُسِكُمْ) كناية عن أنه ليس بِدْعًا من الرسل، فهو بشر مثلكم، وإنسان، وليس ملاكا، ولا جنا، وقد استطاع ـ بفضل الله عليه ـ أن يكون الأولَ عند ربه؛ لعلو أخلاقه، وسُمُوِّ روحه، وتحمُّله فوق ما يتحمَّل غيره من الناس، وفي قراءة للآية:(مِّنْ أَنفُسِكُمْ) أي: من أغلاكم، وأحسنكم: روحًا، وذاتًا، ومن أقربكم إليَّ مكانة، ومنزلة، ومحبة، وقربًا، وطاعة، وعبادة، وتقوى، وطهرًا، وعفافًا، ونبلًا، وجهادًا، واجتهادًا، وقيامًا، وتهجدًّا إلى آخر صفات الكمال والجمال.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، ويأتي هذا القول كناية عن محبته لكم، واعتداده بكم، وخوفه عليكم، وحدبه بكم، أيْ: يحزنه ما أنتم عليه من العنت، والبعد عن الله، والهلاك بتنكُّب الطريق، والإرهاق الذي سيصيبكم بِبُعْدِكُمْ عن سبيل ربكم، وطريق مولاكم، وتنكير:(عَزِيزٌ) لبيان مدى ألمه، ووَجَلِهِ عليكم، ومحبته، المتواصلة، والمتنامية لكم، وقمة قلقه عليكم، وبذل أكبر الجهود لدعوتكم.
وقوله:(حَرِيصٌ عَلَيْكُم) هي، ولفظة:(عَزِيزٌ) من الصفات المشبهة التي تدل على الصفة، ومن قام بها على سبيل الدوام، والاستمرار، فخوفه عليكم، وحرصه الشديد عليكم ماثلان بين نَاظِرَيْهِ، لا ينساكم، بل يفكر في أمته في كل لحظة، ويسعى بهم إلى مولاهم من كل طريق، وبكل سبيل، يفكِّر فيهم، وفيما يُصلحهم، ويُدخلهم الجنة، ويُبعِدهم عن النار، ويُقَرِّبُهُمْ من ربهم، ويُنزِل عليهم محبته، ويشملهم بعفوه، ورحماه، ويحيطهم بكمال رضاه، وتمام نعماه.
وشبه الجملة:(عَلَيْكُم) متعلق بالصفة المشبهة، والحرف:(على) يفيد العلو، فكأنه يُظَلِّلُكُمْ، ويحميكم، ويجعل ذاته، وروحه عليكم، تدفع، وتنافح عنكم، وتضعكم بين يديه حاميًا لكم، ورحيمًا بكم، ورؤوفًا بمجموعكم، وتنكير:(رَّحِيمٌ) كناية عن أنه قد تجمَّع فيه (صلى الله عليه وسلم) كل ألوان الرحمة، وكل أطيافها، فهي رحمة عامة بكل الخلق: كبارًا وصغارًا، شبابًا كذلك وشيبًا، بيضًا أيضًا وسودًا، رجالًا ونساءً، عَرَبًا وعَجَمًا، هنا وهناك وهنالك في كل جنبات الأرض، وزوايا الكون، وأنحاء المعمورة، لا يمنع رأفته، ولا يحجب رحمته عَمَّنْ يعرفه، وعَمَّنْ لا يعرفه، كلهم متساوون في رأفته، ورحمته، وتقديم الرأفة على الرحمة دليلٌ على مدى رقته، ووجله، وخوفه، وامتنانه، وحدبه، وإشفاقه عليكم جميعًا (صلى الله عليه وسلم).
والناظر في الآية الكريمة يجدها قد تحمَّلت مجموعة من الساليب، نذكر منها أسلوبَ القسم الذي جاءت كلُّ أركانه، عدا المقسَمِ به الذي حُذِفَ للعلم به، وأسلوبَ الحذف الذي تمثَّل في حذف المبتدأ، أي: هو عزيز عليه عَنَتُكُمْ، وأسلوبَ التقديم، إذا اعتبرنا أن قوله:(عزيزٌ) خبرًا مقدَّمًا، و(مَا عَنِتُّمْ) مصدرًا مؤولًا مبتدأ مؤخرًا، أيْ: عنتُّكم عزيزٌ عليه، ويُحْزِنُهُ، وأسلوب الحذف مرة أخرى، أي هو حريص عليكم، أما إذا اعتبرنا كلا من:(عَزِيز، وحَرِيص) صفتين لقوله:(رسولٌ) فلا حذف عندئذ، ولكنْ، يكون من باب تعدد الصفات، وتعدُّد الصفات مؤذنٌ بعظمة الموصوف، وكماله البشري، وتجمُّع كلِّ صفاتِ البشرِ الكريمة، وأخلاقهم السامية فيه، وامتلائه منها، وتحققها فيه، وأنه قدوة العالمين، وأسوة الخلق أجمعين، وأنه لو تجمَّعَتْ فيه صفاتُ الخلق كلهم لَفَاقَهَا، وكان أضعافَها، وأمثالَ أمثالها، وأنه سيدُ الأنبياء، وإمامُ الأتقياء، وقدوة أحكم الحكماء من البشر، وهو رحمة الله الكبيرة للعالمين إلى يوم الدين، وأسلوبَ التقديم كذلك في قوله:(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، حيث قَدَّمَ شبه الجملة:(بِالْمُؤْمِنِينَ) على متعلَّقة لبيان أهمية المتقدم، وشدة الحب له، وعمق المودة، وسعة الرحمة، وجلال الرأفة لأمثال هؤلاء المؤمنين الأبرار.
كما وردتْ كثيرٌ من الكلمات منكَّرةً، والتنكير لبيان الشيوع، والشمول، والآية كلها كنايةٌ عن طبيعة الرسول الكريمة، وطبْعه الكريم، المستقيم، وخوفه الصادق، ووجله الكبير على كلِّ مَنْ في الأرض من البشر، وأنه أحرصُ قلبٍ عليهم، وأبرُّ فؤادٍ بهم، وأرأفُ روحٍ عليهم، وأكرمُ نفسٍ بهم، وأرحمُ ذاتٍ وُضِعَتْ في قلبِ بشر عليهم.
هكذا كان المولد النبوي الشريف أكبرَ عطاءٍ من الله، وأتمَّ منَّة منه ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه لولا فضلُ الله على خلقه لهلكوا جميعًا، ولولا الإذنُ بمولده الشريف، والإذن بمبعثه المبارك لكان الناس جميعًا ضُلَّالًا، وَوَثَنِيِّينَ، وعبادَ أصنام، وخُدَّامَ أوثانٍ، فالحمد لله رب العالمين على نعمة ميلاد الرسول المصطَفَى، والنبيِّ المجتَبَى، ونعمة الله للعالمين، ومنَّته للخلق أجمعين.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية