الأربعاء 17 سبتمبر 2025 م - 24 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

اعترافات عصرية

اعترافات عصرية
الأربعاء - 17 سبتمبر 2025 01:03 م

د.أحمد مصطفى أحمد


اعترف أنَّني بعد كُلِّ هذا العمر وتراكم الخبرة في العمل والحياة «لست متوافقًا تمامًا» مع العصر الَّذي نعيشه بثقافته وسلوكيَّاته وسياسته واقتصاده وكُلِّ مناحي حياة أغلب البشر فيه الآن. ليس ذلك بسبب تصلب وجمود أو عدم مرونة يكتسبها المرء في مشوار حياته، وإنَّما لأنَّ منحى توجُّه البشريَّة حاليًّا لا يتسق مع أيٍّ ممَّا تعلمناه واعتقدناه وصدقناه من قِيَم ومبادئ وأفكار قَبل الانتقال من القرن الماضي إلى القرن الحالي. صحيح أنَّ مسيرة البشريَّة هي تطور مستمر وتختلف الأجيال في كثير من الأمور، إلَّا أنَّ ما نشهده ليس مجرَّد «اختلاف أجيال» ولا من قبيل أنَّ «التغيير سنَّة الحياة». فكيف للمرء أن «يتكيف» مع صعود مُجرِمِين مُدانين إلى أعلى قمَّة هرم السُّلطة في أكبر الدول الَّتي تدَّعي الديموقراطيَّة. وبما أنَّ ذلك يتم نتيجة حصولهم على أغلبيَّة أصوات الناخبين فالمسألة ليست مجرَّد «حالة فرديَّة» استثنائيَّة، إنَّما هي توجُّه عام يصعب الاتساق معه. فالشخص الَّذي يتصدى لمنصب عام مسؤول عن حماية مصالح الناس ويتقاضى أجره من الضرائب الَّتي يدفعونها كَيْ يدير أمورهم بأفضل ما يُمكِن هو ممثل لجموع كثيرة. لكن ماذا تتوقع من نصَّاب أو فاسد مُدان قانونيًّا؟!

كيف يُمكِن للمرء أن يقبل من باب المواءمة بأنَّ إبادة شَعب وتدمير مقدراته هي «حرب على الإرهاب» أو «دفاع شرعي عن النفس»؟ أليس هذا ما يبرر به الاحتلال العنصري حرب الإبادة الجماعيَّة والتطهير العِرقي للفلسطينيين في قِطاع غزَّة؟! وإذا افترضنا أنَّ الاحتلال الصهيوني هذا طبعه وسلوكه باعتباره كيانًا اقيم على أرض شَعب آخر عن طريق المجازر والتهجير القسري فكيف يُمكِن تفسير أن تجد من العرب مَن يبرر له جرائمه باعتبارها «خطوة على طريق الاستقرار والازدهار بالقضاء على إيران وجماعاتها في المنطقة». كثيرون الآن في العالم خارج منطقتنا لم يعودوا «يبلعون» ذلك الكذب الفج الَّذي يروِّجه الاحتلال، لكنَّ الصادم أن تجد ناطقين بالعربيَّة يرددونه ويروِّجون له. نعلم أنَّ بعض هؤلاء «مرتزقة أفكار» يروِّجون ما يدفع لهم كَيْ يرددوه ولا قناعة لهم به ولا بغيره. إنَّما المشكلة أنَّ هناك مَن يصدقهم ويجادل بصوتهم، عن جهل أو سوء نيَّة لا يهم. النتيجة أنَّ هذا يشيع سمومًا وتضليلًا هائلًا يصعب عدم التصدي له حتَّى لو كلفنا ذلك أن نتهم بالجمود و»التمسك بشعارات بالية عفا عليها الزمن» و»عدم الواقعيَّة والبراغماتيَّة.

أعترف أنَّني أصبحتُ أفتقر إلى المرونة وقَبول الحلول الوسط في كثير ممَّا أصبح يتداول ومصدره المعرفي مواقع التواصل والكم الهائل من السطحيَّة والتلفيق الَّذي يستهلكه الناس على أنَّه «أصيل». كنَّا من قَبل نستهجن مَن يتحدث في التاريخ استنادًا إلى ما يشاهده في أفلام هوليوود، أمَّا الآن فقد أصبح ذلك هو السائد، بل وأتفَه من ذلك بكثير. المصيبة أنَّ ذلك يرتبط بالصلف والعنجهيَّة ولا يُمكِنك أن تجادل هؤلاء إذ تأخذهم العزَّة بالإثم، ويعدُّونك جاهلًا؛ لأنَّك لا تعرف ألعاب الفيديو الَّتي تمثِّل مصدر ثقافتهم!! فكيف يُمكِن للمرء أن يتكيف مع هذا السائد والشائع؟ قديمًا كان الأسطوات الَّذين سبقوا جيلنا يتمسكون بكثير ممَّا نعدُّه «دقَّة قديمة»، لكنَّنا كنَّا ندرك سريعًا أنَّ هؤلاء يمثِّلون كتلة مرجعيَّة قيميَّة وفكريَّة لا يُمكِن تجاهلها حتَّى مع التطور والتغير. لم تكُنْ «أصوليَّة» ولا تمسكًا متشددًا بالماضي، وإنَّما إيمانًا بأهميَّة كُلِّ التراث الإنساني بكُلِّ ما فيه بما يضمن الاستمراريَّة والتطور. إنَّما ما نراه الآن هو شِبه قطيعة مع «كُلِّ ما سبق»، وكأنَّ المعرفة لم تبدأ إلَّا ببرامج الحاسوب (الكمبيوتر) وشفراتها الَّتي يكتبها مبرمجون غالبًا نصيبهم من الثقافة والمعرفة العامَّة ليس بالكثير.

لا يعني كُلُّ ما سبق انفصالاً عن الواقع الَّذي نعيشه، إنَّما هو عدم قدرة على التكيف والاتساق مع الكثير فيه دون إهماله أو الابتعاد عن متابعته مشاهدة ومراقبة دون انخراط ولا اتساق معه. رغم أنَّ ذلك رُبَّما يؤدي إلى الخروج من متن ما يجري إلى هامشه، إلَّا أنَّ الهامش في المخطوطات القديمة كان مساحة في غاية الأهميَّة. إنَّ استبعاد التوافق والاتساق لا ينفي الاستفادة من كُلِّ الأدوات الَّتي ابتكرها التطور، لكن دون الوقوع (وأظنه أصل وصف الواقعيَّة) في فخاخ التسطيح والتفاهة. قد يسهل على كثيرين في زماننا هذا تفسير الأمور استنادًا إلى نظريَّات المؤامرة والدَّس المعلوماتي الَّذي يتطور بسرعة مذهلة من تزييف المعلومات إلى تلفيق الصور والفيديوهات. ذلك مريح جدًّا طبعًا لأغلب الناس لكنَّه في غاية الخطورة؛ إذ يُبنى عليه مزيد من التزييف حتَّى نصل إلى فوضى. أعترف بأنَّني، وأظنُّ أنَّ هناك مثلي كثيرًا من أبناء جيلي والأجيال الَّتي سبقتنا، لم أعُدْ أقبل ما يصل إلى ثلثي ما يقال ويُبث وينتشر انتشارًا واسعًا عَبْرَ الإنترنت ومنها إلى أحاديث المقاهي وغيرها.

رُبَّما لا يعني للأجيال الجديدة إلَّا أنَّه يتوافق أمثالي مع أغلب ما هو سائد، لكن لا أظن أنَّ ذلك غير مؤثر. فذلك ليس اختلافًا في الآراء ولا تباينًا في الرؤى بَيْنَ الأجيال إنَّما هو تفاعل طالما المرء له علاقة بالحياة العامَّة بشكلٍ أو بآخر. وفي الأخير فعدم التوافق لا يُلغي التفاعل طالما الحياة مستمرة.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]