تُشكِّل الأخلاق عنصر التوازن في مؤشِّرات الأداء الوظيفي، وركيزة أساسيَّة بناء منظومة الجودة، بما تحمله من جوهر المبادئ وقواعد السلوك، وتعظيم مفردات الإخلاص والمسؤوليَّة والذَّوق والالتزام والانضباط وإدراك الواجبات الوظيفيَّة ومتطلباتها ومنحها مساحة أكبر للابتكاريَّة والتعلم الذَّاتي وتوظيف الفرص التدريبيَّة المتاحة للموظف وبناء السيناريوهات وتوليد البدائل، وإنتاج ثقافة مؤسَّسيَّة تعمل على ابراز الجوانب المضيئة ورصد أفضل الممارسات، مرتكزات أصيلة لبناء سلوك المؤسَّسة وتعميق قدرة الموظف نَحْوَ تنفيذ مساراتها وتطبيق منهجيَّاتها، واستحضاره غاياتها السامية وأهدافها النبيلة في واقع أدائه.
كما تبرز أخلاقيَّات العمل في سلوك الموظف من خلال رفع سقف الأمان الفكري والقِيَمي والنفسي والأدائي لدَيْه في ظل ما يحمله من نواتج الأخلاق وانعكاساتها على شخصيَّته كموظف والتزامه منهجيَّة تتوافق مع هيبة الوظيفة وإجلال مهامها واحترام الموظف، نماذج مضيئة تبرز جوانب الاحترام والمسؤوليَّة والتقدير والالتزام وتكوين الفرص واستثمار الوقت، وتؤصل في سلوكيَّات الموظف وأخلاقه جوانب الحرص والاهتمام بأداء واجباته وشغفه ودافعيَّته، وتعرِّفه على كُلِّ ما هو جديد وما أشكَلَ عليه معرفته، إذ من شأن ذلك أن يؤصل فيه قِيَم الهُوِيَّة الوظيفيَّة المرتبطة بحقوق الوظيفة العامَّة وواجباته نَحْوَها وتلمُّس العمل الأقرب إلى بناء الثِّقة وتحقيق الجودة، بحيثُ تعكس مسارات التفاعل والانسجام في السلوك الداخلي ونواتجه حجم التقدير للإنجاز واستثمار موارد المؤسَّسة بما يُعزِّز من النوعيَّة في المنجز بالمؤسَّسة وضمان تحقيقه التوقُّعات.
إنَّ تعظيم دَوْر أخلاقيَّات العمل كعنصر للمنافسة منطلق لخلق حراك مؤسَّسي وتفاعل وحوار يرصد حركة التغيير الخارجيَّة والتحولات الَّتي ستشدها المُجتمع ويوائم البرامج والخطط والمبادرات بشكلٍ ينسج مع هذه التحوُّلات، لانطلاقة جديدة تضع المؤسَّسة في قائمة المنافسة وتعظّم من حضورها في المُجتمع والثِّقة المُجتمعيَّة فيما تتخذه من إجراءات وتؤسِّسه من محطَّات لصناعة المشهد التنموي، هذا الأمر من شأنه أن يوفر بيئة مؤسَّسيَّة محفّزة وبنية بَشَريَّة مساندة قادرة على نقل محور التغيير وإدارته وتوظيفه لصالح المؤسَّسة وإنتاجيَّتها، كما يوفِّر في المقابل مستوى عاليًا من المهارة والخبرة المصحوبة بالتجريب والمعرفة المهنيَّة المعززة بجاهزيَّة الموظف واستعداد نَحْوَ صياغة السلوك المهني على شكل أنشطة عمل وإجراءات تتجه إلى الجودة وحوكمة العمليَّات الداخليَّة وسرعة إنجاز المهام، وتوظيف نتائج الرصد والتشخيص والمسوحات في تحليل بيئة العمل ومعرفة جوانب القوَّة والقصور وأولويَّات التطوير.
إنَّ مفهوم أخلاقيَّات العمل في هذا الإطار يتسع لكُلِّ الجوانب المرتبة بسلوك الموظف كالمشاعر والأفكار والقناعات الَّتي يؤمن بها نَحْوَ أنظمة المؤسَّسة وقوانينها وتشريعاتها وبيئة العمل واحترام المسؤوليَّات وثقافة العمل والفلسفة الإداريَّة الَّتي تحافظ على درجة التوازنات الداخليَّة والخارجيَّة للمؤسَّسة حاضرة دون تعكير صفوها بممارسات أقرب إلى الأنانيَّة والشخصنة، والوقوف عند حدود الواجبات والمحظورات، الأمر الَّذي يصنع من عنصر المنافسة خيوطًا متصلة وجسور عمل متكاملة لصناعة الأثر ورفع مستوى التأثير الَّذي يصنعه الموظف للمؤسَّسة، والنواتج الَّتي تظهر عبر تحقيق الأهداف، واختصار الآليَّات وإنجاز المهمات، والابتكاريَّة في استحضار التوقعات، والحدس بمتطلبات المستهدفين، وهو ما يعطي المؤسَّسة موقعها ويمنحها فرصة أكبر لتقديم برامج ومبادرات تخدم المستفيدين من المؤسَّسة، كما تقدِّم للمُجتمع الوظيفي فرصًا تحفيزيَّة مستمرة.
وعلى هذا فإنَّ الحديث عن حوكمة منظومة الأخلاق في عمل مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة يستدعي مراجعة مقنعه لفلسفة عمل المؤسَّسات وآليَّات بناء ثقافة العمل وطريقة طرحها داخل المؤسَّسة من خلال القرارات والأوامر والالتزامات والتعليمات واللقاءات والصورة الَّتي تحملها لدى العقل الباطني للموظف، ومدى استحضارها قَبل كُلِّ شيء في المسؤول نفسه والتزامها في كُلِّ تفاصيل العمل بحيثُ تصبح شاهدة عليه ضامنة لصناعة القدوات والنماذج في المؤسَّسة. إنَّ التزام هذه المعايير كفيلة بصناعة حضور نوعي لقِيَم المؤسَّسة كأحد أهم عناصر المنافسة في بيئة العمل، إذ المسألة الأخلاقيَّة تتعدى جانب السلوك إلى المهارات والقدرات والانتصار لقواعد العمل والمبادئ الَّتي يحتكم إليها الجميع في ظلِّ عدالة والتزام بدون محاباة لأحد الأمر الَّذي سينعكس إيجابًا على البيت الداخلي للمؤسَّسة وقدرته على التكيُّف مع التحوُّلات الَّتي تشهدها الوظيفة العامَّة وعمل المؤسَّسات واختصاصاتها، وعندها تصبح أخلاقيَّات العمل وأخلاقيَّات الوظيفة إطار عمل محكوم بالأدوات ومضبوط بالشواهد ومؤطرة بالتشريعات واللوائح.
إنَّ الحاجة اليوم إلى تأصيل أخلاقيَّات العمل وأخلاقيَّات الوظيفة العامَّة في ثقافة المُجتمع الوظيفي باتت من أولويَّات بناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤية «عُمان 2040»، فإنَّ خِطابات جلالة السُّلطان في رسم ملامح المشهد الوظيفي بعد إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، تُمثِّل مدوّنة شاملة لقواعد السلوك الوظيفي العام، وخريطة طريق لتأصيل المسار الأخلاقي والأخلاقي في منظومة الأداء الحكومي، وترسيخ معايير الكفاءة والإنتاجيَّة والأداء الفعَّال على المستوى الشخصي للموظف أو على مستوى الأداء المؤسَّسي عامَّة، ونقطة انطلاقة تضع الأداء أمام مراجعة شاملة، وتقييم مستمر، ورقابة ذاتيَّة، تستهدف تجويد الأداء الحكومي وتقوية الممكنات المهنيَّة والرقابيَّة والوظيفيَّة والذوقيَّة الَّتي تضمن قدرته على تحقيق غاياته والوصول إلى أهدافه، لبناء الذَّات الوظيفيَّة المعززة بالنزاهة والحِس الوظيفي المؤطر بالإخلاص، وحافز الأداء، وإيجاد مزيدٍ من التناغم والانسجام في معادلة البناء الوظيفي الكفء، لصناعة نموذج وظيفي متكامل يمتلك فلسفة العمل وثقافة الأداء ومعين القدرات والاستعدادات، قوامها الإخلاص والمسؤوليَّة، والثِّقة والتمكين، والعدل والمساواة، واحترام الأدوار تكافؤ الفرص، والانضباط والالتزام، فإنَّ أخلاقيَّات العمل وأخلاق الوظيفة بذلك مؤشِّر للوعي والمهنيَّة، وعنوان لنضوج الفكر ورُقي الممارسة، وطريق المؤسَّسة في رسم مسارات الجودة وتعزيز الكفاءة في منجزها والابتكاريَّة فيه.
أخيرًا، كيف نصنع من مدوّنة قواعد السلوك الوظيفي الَّتي أصدرها مجلس الخدمة المدنيَّة بالقرار رقم (7/2019) للموظفين المدنيين في وحدات الجهاز الإداري للدَّولة؛ باعتبارها إطار عمل وطنيًّا جامعًا يضم بَيْنَ دفَّتيه قواعد سلوكيَّة محدَّدة وميثاق شرف مكتوبًا يلتزم به الموظف في أثناء تأديته لمهامه الوظيفيَّة؛ محطَّة تحوُّل في تعظيم أخلاقيَّات العمل ودَوْرها في صناعة المنافسة، وتجسيدها في السلوك الوظيفي وفي القرار والحوار والخِطاب وفلسفة العمل وتوزيع المهام وتنفيذ الاختصاصات والترقيات والمكافآت ونظام إجادة وإدارة منظومة الموارد البشريَّة؟
إنَّ الإجابة على هذا التساؤل تؤسِّس للحاجة إلى مرحلة متقدمة من العمل لتجسيد هذه القواعد في سلوك المسؤول الحكومي وبيئة العمل، وإنسانيَّة الوظيفة واحترام الموظف، والانتقال بها من التنظير إلى التطبيقات العمليَّة والَّتي لن تكتمل حلقاتها وتظهر نتائجها إلَّا من خلال تحقيق التزام وطني بها يضمن العدالة في الحقوق والواجبات، ويصنع للمدونة ـ باعتبارها حاضنة لقواعد السلوك الوظيفي وأخلاقيَّات العمل وأخلاق الوظيفة ـ حضورًا واسعًا في فِقه الوظيفة العامَّة وسلوك الموظف واهتمامات المؤسَّسات، واستنطاق قِيَمها ومبادئها في صناعة جودة حياة المؤسَّسة، واستشعار الموظف لها في كونها مسلكًا دفاعيًّا ضامنًا لحقوقه عندما تتحقق منه شرطيَّة الالتزام، وفرصة لتسويق نفسه بالمؤسَّسة من خلال إنتاجه المستمر وعطائه النوعي بما يمنحه فرصة في عرصات المنافسة وميادين العطاء، ودعوة للمؤسَّسة إلى التزامها بكُلِّ تعهداتها تجاه الموظف في كُلِّ ما يتعلق بترقية الحافز الإيجابي لدَيْه ورفع مستوى دافعيَّته، وتعزيز الصلاحيَّات والتمكين، وإشراكه في رسم صورة الأداء القادم، وصناعة البدائل، وتقديم الأفكار النوعيَّة الَّتي تَضْمن انطلاقة جادَّة للمؤسَّسة في مسار التحول الشامل، وتوظيف ما لدَيْه من منتَج فكري ومبادرات جادَّة وشغف البحث والتطوير والتعلم من التجارب في إثراء المؤسَّسة، بما يضع المؤسَّسة أمام مسؤوليَّة التزام سياسة واضحة أمام موظفيها تحافظ على درجة توزيع المهام وتفعيل عمل الدوائر بدون استثناء ومنح الموظفين بدون استثناء فرص أكبر لإثبات حضورهم ودخولهم في عُمق التفاصيل، فإنَّ ما يظهر اليوم من حالات الإقصاء أو التهميش أو غياب الفلسفة الرصينة الَّتي تعتمد عليها المؤسَّسة في خطابها وتواصلها مع الموظف أو حالة الفجوة والتباينات بَيْنَ المستويات القياديَّة العليا في بعض المؤسَّسات، وغياب روح الثِّقة والعمل الجمعي في إيصال الرسالة للمُجتمع الوظيفي سوف يعرّض قواعد السلوك المؤسَّسي إلى الانكسار ويتيح الفرص لنُمو الفردانيَّة والفوقيَّة والسلطويَّة والمزاجيَّة والعشوائيَّة والتخبط في بيئة المؤسَّسة وسيطرتها على فلسفة العمل وثقافة الأداء.
د.رجب بن علي العويسي