في طريق التنويع الاقتصادي والاستدامة الماليَّة والاقتصادات الواعدة تمثِّل الاستدامة أولويَّة وطنيَّة وخيار استراتيجي في رؤية «عُمان 2040» وعَبْرَ محور «البيئة والموارد الطبيعيَّة» ومحور «القيادة والإدارة الاقتصاديَّة»، لرفع مساهمة القِطاعات غير النفطيَّة، ويقلل من المسارات غير المنضبطة الَّتي باتت تستهلك الموارد والجهد المؤسَّسي، فالاستدامة بذلك إطارًا محوكمًا يسعي لإعادة إنتاج الفكر والثقافة والمعرفة والاقتصاد والمال وحسن توجيهها وإدارة طرائقها، بما يعزز قدرتها على التفوق ورسم خريطة التميز واقترابها من احتياج الإنسان العُماني.
إنَّ التساؤل الَّذي يُمكِن طرحه هو: ثم كيف يُمكِن أن تصنع موجهات الاستدامة تحوُّلًا في قناعات الشباب العُماني في سبيل تحقيق طموحاته وترقية سلوكيَّاته ونقله إلى حيز الشعور الإيجابي بما تقدمه له الدولة من منجز قادر على احتوائه والتأثير فيه، واستيعاب المفردات الَّتي يعمل عليها، والمعطيات الَّتي يتفاعل معها، في ظل متغيرات اقتصاديَّة وسياسيَّة عالميَّة متسارعة تتطلب امتلاك المواطن مزيدًا من الحكمة والتوازن والتأمل وسَبر أعماق قراءة الواقع ودراسة تجلياته مستحضرًا الثوابت الوطنيَّة، واضعًا النهج الوطني طريقه في قراءة الأحداث وفَهْم الأدوار حتَّى لا يقع مظنة تكهنات وتفسيرات ومقارنات وقياسات يقرأ فيها مفهوم التنمية بمنظورات شخصيَّة وأمزجة ذاتيَّة.
إنَّ الإجابة على هذا التساؤل تضعنا أمام جملة الموجِّهات الآتية:
• انتقال المواطن في قراءة مسار الاستدامة في التنمية والبرامج الوطنيَّة من دَوْر المستهلك والمستنزف لمواردها وامكاناتها، إلى دَوْر المنتج والمستثمر لها والمتفاعل الحيوي مع متطلباتها، عَبْرَ تعظيم قِيمتها المضافة لصالح الأجيال القادمة، بالشكل الَّذي يضمن قدرتها على امتلاك مساحات أكبر من الإيجابيَّة والتفاؤل والتعاطي الواعي مع المنجز التنموي وفَهْم المتغيرات الَّتي يعيشها، والمتطلبات الَّتي يحتاجها، والمهارات الَّتي تضمن كفاءة عمليَّات الاستفادة من المشروعات التنمويَّة والخطط والبرامج التنفيذيَّة في مختلف القِطاعات، بحيثُ تتجاوز واقعه لترسم صورة مكبرة لمستقبل الأجيال القادمة، فيتعاطى معها على أنها حق وطني مستدام يتسع لكُلِّ مَن يعيشون على هذه الأرض الطيبة فيتعامل معه وفق ضوابط ومحددات تحفظ له كيانه وتضمن استمراريَّته، وليس لكونه امتيازًا يختص به دون غيره ويقتصر عليه دون سواه، لينقل تفكيره من محدوديَّة النظرة القائمة على الأنانيَّة والاستهلاكيَّة والسطحيَّة والأثرة، إلى مشاركتها الآخرون ونقلها إلى الأجيال القادمة كاستحقاقات أكدتها تشريعات الدولة وأنظمتها المختلفة، وصان قواعدها وآليَّات عملها النظام الأساسي للدولة.
• تعظيم ثقافة المحافظة على المنجز الوطني، وذوق التعامل معها وترقيتها وتطويرها، وإبراز الوجه المشرق لها، وموقعها في منظومة التنمية، وأثرها في سلوكه، وقدرتها على خلق تحوُّل في ممارسة المواطن نَحْوَها، سوف يرفع من سقف توقعات المواطن لها لتنعكس على نظرته الشموليَّة نَحْوَها في أبعادها الزمانيَّة والمكانيَّة والبشريَّة، كما أنَّ التحول في ثقافة المواطن وقناعاته حَوْلَ المنجز التنموي ذاته، سوف يضعه أمام عدسة مكبرة في التعاطي مع مقتضيات الممارسة القادمة في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة، لتصبح ممارسة مبتكرة تعمل على بناء نسق التجديد في المنجز وقدرته على الدخول في العُمق البشري، ليكُونَ محطَّة عمل يقوم عليها إنسان اليوم لصالح إنسان الغد « زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون»، وبالتالي ضمان أنَّ عمليَّة التعاطي معها تتم وفق نموذج متقن البناء، أساسه الوعي، وغايته استدامة هذا المنجز التنموي وإيصاله إلى الأجيال القادمة، لتستفيد منه وتبرز فيه نموذج القدوة الَّتي صنعها الإنسان العُماني المعاصر في تحويل روح التنمية العُمانيَّة ومبادئها وقِيَمها المرتكزة على العدل والمساواة والشراكة والتمكين، إلى مسارات حياتيَّة مستدامة تحاكي الواقع الميداني، وأنماط تفاعليَّة متناغمة تظهر في محتوى المنجز وحضوره الأقوى في حياة المواطن.
• دَوْر المواطن في إضافة لمسات التطوير والابتكاريَّة في المنجز وإحداث التحول فيه، عَبْرَ توظيف وتوجيه المواطن لخبراته وقدراته وكفاءته ونواتج تعلمه لصالح تحقق تحوُّل في الممارسة الأدائيَّة، وطريقة تقديم الخدمة وممارسة المهام والمسؤوليَّات وتقليل فاقد العمليَّات المتكررة لتقديم خدمة مؤسَّسيَّة ذات جودة، بحيثُ تتناغم مع الجهد المبذول في المحافظة على المنجز التنموي، وبالتالي تبرز روح الاستقلاليَّة لدى المواطن، بحيثُ يسخر كُلَّ جهده للمحافظة على سلامة المنجز وصيانته، وترقية الممارسة المؤسَّسيَّة وخلق التحول في سلوك الإنجاز وطريقة تحقيق المنجز، وتعزيز معايير الجودة فيه وإبراز القوَّة في نواتجه، سواء عَبْرَ قيامه بِدَوْر التوعية والتثقيف للمواطنين الآخرين والمُجتمع في أهميَّة هذه الجهود والمبادرات والرؤى التطويريَّة، أو التنازلات الَّتي يقدمها للصالح العام، متجاوزًا سلوك الأنانيَّة والمصالح الشخصيَّة أو التأثير السلبي الَّذي يعرقل جهود التطوير، ويؤخر الإسراع في تنفيذ المشروعات التنمويَّة الموجهة لصالح المُجتمع. وسلوك الاعتراض الَّذي يبديه على تنفيذها في أماكن، بما تعنيه هذه التصرفات من ممارسات تتنافى واستدامة التنمية الوطنيَّة.
• حجم المساحة الَّتي يمنحها المواطن للحكومة ومؤسَّسات الدولة في تحقيق الأهداف الوطنيَّة والبرامج المستهدفة وقياس نتائجها على الأرض، وعدم الاستعجال في انتظار النتائج، بحيثُ تتناغم فيها مسارات الكم مع الكيف، وتتفاعل المشاعر والقناعات مع الوعي والمهنيَّة وقوَّة الممارسة، وتتكامل ضرورات الاهتمام بالمبنى وهيكليَّة العمل مع بناء القدرات وترسيخ القِيَم والمهارات وتنقية الشَّوائب الَّتي قد تكدِّر الإنجاز أو تشوِّه صورة المنجز.
• دَوْر المواطن كمؤثِّر فاعل ومنتج إيجابي نشط له في كُلِّ محطَّات العمل وبرامج التنمية الوطنيَّة، في ظل توظيف ما تحقق له من تعليم وتدريب واطلاع على تجارب دوليَّة وتراكميَّة الخبرات، بإعادة إنتاج ذاته وهيكلة جديدة للمهارات والقناعات والأفكار الَّتي توجِّه بوصلة عمله وتحدِّد مساره مستفيدًا من الخبرات والتجارب والمواقف الإيجابيَّة الَّتي تعلَّمها، والعادات الَّتي تربَّى عليها في الأُسرة والمدرسة والجامعة والمؤسَّسة أو اكتسبها من منصَّات التواصل الاجتماعي والمواقف اليوميَّة، والقوانين والتشريعات الَّتي تحكم مساره وتضبط اختياره وتبرز حضوره، فيعرف أين يقف دَوْره كمواطن في جهود التطوير، وكيف يسهم في مواجهة التحدِّيات الاقتصاديَّة، بما يؤكد أهميَّة بناء استراتيجيَّة أداء تعليميَّة وتثقيفيَّة وتوعويَّة وفكريَّة وترويحيَّة، وقائيَّة وعلاجيَّة تعزز وعي المواطن التنموي وتؤمّن مساحات المشاركة له، بما يضمن اعترافه بمشاريع الدولة الضخمة وتقديره لبرامجها التطويريَّة: الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والثقافيَّة والتعليميَّة الَّتي تستهدف تحقيق الرخاء والاستقرار لهذا الوطن الغالي وأبنائه الأوفياء.
أخيرًا، تبقى كفاءة المواطن في نقل فرص الاستدامة في المنجز التنموي، إلى سلوك يعيش منجزات الوطن ويتعايش مع تطلعاته بإيجابيَّة متوازنة مع الواقع، مرهونًا بمدى وجود سياسات مستدامة واستراتيجيَّات عمل تتسم بالشفافيَّة والنضج والتكامل والواقعيَّة، وتوفير بيئة الأعمال الَّتي تتسم بالمرونة والتكامليَّة الَّتي ينطلق منها في ترجمة مشروعات التنمية إلى واقع عمل، فيتعاطى مع آليَّاتها بشكلٍ يتوافق مع استراتيجيَّات التنمية العالميَّة، كما تستجيب لمؤشِّرات التقارير الدوليَّة والمعايير الَّتي ترسم موجهات التنمية في القِطاعات من خلال تعميق الحوكمة والتنافسيَّة والابتكاريَّة، فإنَّ الوصول بهذه المدركات بحاجة إلى ممكنات أخرى تضع المواطن في صورة العمل الجمعي مع مؤسَّسات الدولة، وهو ما نعتقد بأنَّ الحكومة عملت على تحقيقه عَبْرَ البرامج الوطنيَّة المعززة للتنويع الاقتصادي والاستدامة الماليَّة، والخطط الخمسيَّة للتنمية، ومستهدفات رؤية «عُمان 2040» إلَّا أنَّه بحاجة إلى مزيدٍ من التأطير لِدَوْر المواطن فيه وموقعه منه ومستوى المرونة المتاحة له في التحرك في رسم خريطة المنجز التنموي وتشكيل صورته الواقعيَّة عَبْرَ دخوله المباشر فيه كشريك وميسّر وممارس ومنتج وفاعل نشط، وبالتالي كيفيَّة الاستفادة من النُّهُج الحكوميَّة والمبادرات القِطاعيَّة والأهليَّة والخاصَّة في تمكين المواطن من صناعة الفرص، سواء عَبْرَ تعزيز الشراكة التنمويَّة وتوجيه السياسات التنمويَّة نَحْوَ بناء مساحات التقاء مستمرة مع المواطن «معًا نتقدم»، أو تلك المعنيَّة بالتحول الرقمي وتوظيف التقنيَّات والذكاء الاصطناعي في تقييم أداء المؤسَّسات وتعزيز الإنتاجيَّة عَبْرَ تقديم خدمات ذات جودة عالية تتوافق مع رغبة المواطن واحتياجاته وترقى بطموحاته وتوقعاته، أو توظيف منصَّة «تجاوب» المنصَّة الوطنيَّة لاستقبال المقترحات والشكاوى والبلاغات وتعظيم قِيمتها المضافة في رصد الواقع بمهنيَّة وتحليل نتائجها لتطوير الخدمة وإنتاج القرار الاستراتيجي، أو غيرها من المبادرات لإبراز دَوْره بشكلٍ أكثر قوَّة وابتكاريَّة ونشاطًا؛ كونه المعني بتحويل هذه التحدِّيات إلى فرص وممكنات والأقدر على الاستثمار فيها في ظل المساحة المتاحة له من التمكين والتمكن والمنافسة وتبسيط الإجراءات وحوكمة العمليَّات المؤسَّسيَّة.
د.رجب بن علي العويسي