الاثنين 15 سبتمبر 2025 م - 22 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : التحكيم وأهميته فـي الاقتصاد التنافسي

الاثنين - 15 سبتمبر 2025 04:30 م

رأي الوطن


تَقُوم الثِّقة في الاقتصاد الحديث على بنية خفيَّة تُمكِّن السوق من العمل بانتظام، قواعد واضحة، مؤسَّسات فاعلة، وآليَّات فضِّ نزاعات تمنع التعطُّل، وتحجز مكانًا للنُّمو، وحين يجري الاستثمار في منظومة تحكيم ووساطة احترافيَّة، فذلك يُشبه تحديث نظام التشغيل الَّذي تعمل عَلَيْه حركة الأعمال، حيثُ تزداد سرعة الاستجابة، وتتقلَّص تكاليف الوقت، ويتَّسع هامش اليقين لدَى المستثمِر والمموِّل وشركة التَّأمين على السَّواء. فإقامة ندوة التَّحكيم التِّجاري في عقود المصارف والتَّأمين والتَّمويل تكشف أنَّ سلطنة عُمان تتعامل مع التَّحكيم كأداة إنتاج للقِيمة، وكجزء أساس في البنية الأساسيَّة الاقتصاديَّة، حيثُ تضع رؤية «عُمان 2040» هذا التَّوَجُّه في سياق استراتيجي يربط بَيْنَ بيئة الأعمال والعدالة التجاريَّة، عَبْرَ قنوات بديلة سريعة وشفَّافة، وكُلّ خطوة تضيف مزيدًا من الانضباط لهذا المسار ترفع جودة إدارة المخاطر وتُعيد تسعير رأس المال لصالح الاقتصاد الوطني؛ لأنَّ المستثمِر يقيس كلفة النِّزاع قَبل دخوله السُّوق ويبحث عن يقين قانوني يُتيح له قرارًا حاسمًا وتنفيذًا موثوقًا وسقفًا زمنيًّا يختصر الطَّريق، ويحوِّل النِّزاع من عبء طويل إلى ملفٍّ قابلٍ للحسم.

هذا التَّوَجُّه يتحوَّل إلى واقع ملموس من خلال الحراك الَّذي تَقُوده المؤسَّسات المعنيَّة، كما ظهر في النَّدوة الَّتي نظَّمتها غرفة تجارة وصناعة عُمان بالتَّعاون مع مركز عُمان للتَّحكيم التِّجاري، حيثُ جاء اللِّقاء كمنصَّة حقيقيَّة لتبادُل الخبرات وتحديد مَواطن الاحتكاك بَيْنَ الأطراف الاقتصاديَّة. وما ميَّز النِّقاشات هو أنَّها لم تتوقفْ عِندَ التَّوصيف، لكنَّها قدَّمتْ حلولًا قابلة للتَّطبيق، مِثل صياغة بنود تحكيم معياريَّة لعقودِ التَّمويل والتَّأمين، اعتماد مسارات سريعة للدَّعاوى الماليَّة، وضع سقوف زمنيَّة محدَّدة لهيئات التَّحكيم، بناء قوائم خبراء متخصِّصين لتوزيع القضايا حسب طبيعتها، وتطوير منصَّات رقميَّة لإدارة الإجراءات.. وهذه الخطوات تعكس فَهمًا عميقًا بأنَّ تعزيز الثِّقة بَيْنَ المستثمِرِين يحتاج إلى إجراءات عمليَّة تجعل اللُّجوء للتَّحكيم مسارًا طبيعيًّا ومألوفًا، وتحوِّل فضَّ النِّزاع من معركة مفتوحة إلى عمليَّة متدرجة تتَّسم بالحياد والشفافيَّة.

إنَّ الأثر الاقتصادي لهذه المنظومة يظهر في تقليص كلفة النِّزاعات، وتحسين كفاءة التَّمويل وجاذبيَّة السُّوق العُمانيَّة لرأس المال المحلِّي والدّولي، فكُلُّ يومٍ يُحسم فيه النِّزاع سريعًا يُقلِّل من تكاليف التَّمويل ويُعيد السيولة إلى المشاريع، ويمنع تعطيل سلاسل التَّوريد. وهذا ينعكس على تصنيف السَّلطنة في مؤشِّرات سهولة ممارسة الأعمال، ويجعلها بيئة أكثر أمانًا للاستثمارات طويلة الأجل، كما يمنح الشَّركات الصَّغيرة والمُتوسِّطة متنفسًا مهمًّا لحماية أعمالها واستعادة حقوقها، دُونَ استنزافٍ طويل، ما يُحافظ على ديناميكيَّة الاقتصاد ويمنع خروجها من السُّوق بسبب نزاعات متراكمة.. ومع استقرار بيئة الأعمال يزداد استعداد شركات التَّأمين والمصارف لابتكار منتجات تمويل وتغطية أكثر تنوُّعًا، ما يفتح الباب أمام توسُّع في المشاريع النَّوْعيَّة ويُعزِّز تنافسيَّة الاقتصاد العُماني في المنطقة.

ويأتي الإعلان عن استضافة مؤتمر «أيَّام مسقط للتَّحكيم» خلال ديسمبر لِيشكِّلَ حلقة جديدة في مسار بناء منظومة تحكيميَّة متقدِّمة، فمشاركة أكثر من (45) خبيرًا دوليًّا وحضور نَحْوِ ألفِ مشارِكٍ تعني أنَّ المؤتمر سيكُونُ منصَّة إنتاج أفكار وسياسات، لا مجرَّد فعاليَّة نظريَّة، ومن المتوقع أنْ ينتجَ عَنْه خريطة طريق تشمل توحيد الصّيغ النموذجيَّة لعقودِ التَّحكيم، وتطوير آليَّات سريعة للقِيَم الصَّغيرة والمُتوسِّطة، واعتماد أحكام ثنائيَّة اللُّغة لتسهيلِ التَّنفيذ عَبْرَ الحدود، وإعداد مؤشِّرات لقياس الأداء تشمل متوسِّط مُددِ القضايا ونِسَب التَّسويات المبكرة.. هذا الحراك يجعل من مسقط وجهة إقليميَّة لحلول النِّزاعات التجاريَّة، ويضع السَّلطنة في موقع ريادي يربط القانون بالاقتصاد، ويُعيد تعريف الثِّقة كأصل إنتاجي، بما يَضْمن استمرار تدفُّق الاستثمارات ويُعزِّز مكانتها كبيئة أعمال متقدِّمة تُسير بخُطى ثابتة نَحْوَ المستقبل.