يواصل الاقتصاد الوطني مساره بثقة نَحْوَ تحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040»، معتمدًا على خطط وبرامج مدروسة تَضْمن التوازن بَيْنَ النُّمو والتنويع والاستدامة. فالبيانات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات تعكس صورة متماسكة لاقتصاد قادر على التكيُّف مع تحوُّلات الأسواق العالميَّة، دُونَ أنْ يفقدَ بوصلته الاستراتيجيَّة، إذ تظهر المؤشِّرات أنَّ التراجع في بعض القِطاعات يقابله نُمو في أخرى، ما يعني أنَّ عجلة الإنتاج الوطني تَدُور في الاتجاه الصحيح. وتُمثِّل الأرقام دليلًا على نضج المنظومة الاقتصاديَّة وشفافيَّة الأداء، حيثُ باتتِ القرارات الاقتصاديَّة تُبنى على قراءة دقيقة للواقع لا على انطباعات عابرة، وتبرز أهميَّة التوقف عند تفاصيل الميزان التجاري، وما يحمله من مؤشِّرات متباينة بَيْنَ تراجع عوائد النفط والغاز ونُمو الصادرات غير النفطيَّة، لِنفهمَ كيف يتحرك الاقتصاد في الاتجاه الَّذي رسَمته الرؤية الوطنيَّة.
يكشف الميزان التجاري حتَّى نهاية يونيو 2025 عن فائض بلغ (3) مليارات و(88) مليون ريال عُماني، وهو رقم يعكس استمرار قوَّة موقع سلطنة عُمان في التجارة العالميَّة، رغم التراجع مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، والتراجع في عوائد النفط والغاز بنسبة (16) في المئة يشير إلى تأثيرات الأسواق العالميَّة وتقلُّبات الأسعار، لكنَّه لا يغيِّر حقيقة أنَّ الفائض التجاري ما زال قائمًا ويدعم استقرار الاقتصاد الكُلِّي، لكنَّ الأكثر لفتًا للانتباه أنَّ الصادرات غير النفطيَّة حققتْ نُموًّا ملحوظًا بنسبة (9) في المئة لِتصلَ إلى أكثر من (3.2) مليار ريال، ما يُعزِّز جهود تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على العائدات النفطيَّة، حتَّى مع انخفاض إعادة التصدير بنسبة (6) في المئة، تبقى الصورة الكُليَّة إيجابيَّة وتشير إلى أنَّ عجلة التجارة الخارجيَّة تعمل بكفاءة، مع تزايد أهميَّة القِطاعات الصناعيَّة والمنتجات الوطنيَّة في دعم الميزان التجاري وتحقيق القِيمة المضافة للاقتصاد الوطني، وهذا الأداء التجاري يفتح الباب للنظر في بقيَّة المؤشِّرات النقديَّة والتمويليَّة الَّتي تؤكِّد أنَّ النشاط الاقتصادي يمتدُّ إلى المصارف والائتمان والسيولة الَّتي تغذِّي دَوْرة الاستثمار والإنتاج.
لعلّ مؤشِّرات السيولة والائتمان في منتصف 2025 تكُونُ الدليل الأوضح على حيويَّة الاقتصاد الوطني، وقدرته على الاستمرار في دفع عجلة النُّمو، فقَدِ ارتفعت السيولة المحليَّة بنسبة (5.6) في المئة لِتصلَ إلى أكثر من (25.4) مليار ريال عُماني، وهو ما يوفِّر قاعدة تمويليَّة متينة تُعزِّز الأنشطة الإنتاجيَّة والخدميَّة، ويُمثِّل ارتفاع عرض النقد بمعناه الضيق بنسبة (7.7) في المئة إشارة إلى مرونة الجهاز المصرفي واستعداده لدعم التجارة والعمليَّات اليوميَّة، كما يعكس نُمو الائتمان الممنوح من البنوك والنوافذ الإسلاميَّة بنسبة (8.4) في المئة ثقة القِطاع الخاص، واستعداده للتوسع في مشاريع جديدة، وهو ما يتكامل مع ارتفاع ودائع القِطاع الخاص بنسبة (6) في المئة لِيعزِّزَ الاستقرار المالي، ويخلق توازنًا صحيًّا بَيْنَ الإقراض والادخار، أمَّا التراجع الطفيف في أسعار الفائدة على القروض، فيفتح آفاقًا أكبر للمستثمرين، ويهيء بيئة ماليَّة مشجِّعة لإطلاق مبادرات جديدة، يُمكِن أنْ تدفعَ بالنُّمو إلى مستويات أعلى خلال الفترة المقبلة، خصوصًا مع ارتفاع صافي الأصول الأجنبيَّة واستقرار سعر الصرف الفعلي للريال العُماني.
إنَّ الرسالة الأبرز الَّتي تحملها هذه المؤشِّرات أنَّ الاقتصاد العُماني يسير على طريق مدروس يوازن بَيْنَ مواجهة التحدِّيات وبناء فرص جديدة، والمرحلة المقبلة تتطلب تعزيز الشراكات التجاريَّة الإقليميَّة والدوليَّة، وتوسيع قاعدة المصدرين المحليِّين، مع التركيز على القِطاعات ذات القِيمة المضافة العالية الَّتي تدعم سلاسل الإمداد وتفتح أسواقًا جديدة في آسيا وإفريقيا، ويَجِبُ أنْ يتحول دعم الابتكار والتصنيع المحلِّي إلى أولويَّة استراتيجيَّة، بحيثُ تصبح المصانع لاعبًا رئيسًا في تلبية الطلب العالمي وتوليد فرص العمل للشَّباب، كذلك فإنَّ استقرار القِطاع المصرفي ومرونة أدوات التمويل، يمنح الحكومة والقِطاع الخاص فرصة للتوسُّع في الاستثمارات النوعيَّة، بما يَضْمن استدامة الفوائض التجاريَّة حتَّى مع تقلُّبات أسواق الطاقة. فالمستقبل يفتح الباب أمام اقتصاد قادر على تجاوز دَوْرات الصعود والهبوط بفضل تنويعه وقوَّة سياساته الماليَّة، وهو ما يجعل الثِّقة بمسار الرؤية الوطنيَّة خيارًا منطقيًّا لا رهانًا محفوفًا بالمخاطر.