السبت 13 سبتمبر 2025 م - 20 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

بتغييب الموت لآخر أحفاد حميد بن عبدالله أغلق مجلس مهيب.. ذاع صيته وازدهر لأجيال

بتغييب الموت لآخر أحفاد حميد بن عبدالله أغلق مجلس مهيب.. ذاع صيته وازدهر لأجيال
السبت - 13 سبتمبر 2025 01:11 م

سعود بن علي الحارثي

60

ينقل العمُّ الجليل الشَّيخ سعيد بن حمد بن سليمان الحارثي، في أحَد كتُبه، عن آبائه أنَّ أبناء جدِّنا الأكبر حميد بن عبدالله بن سليمان بن محمد بن عيسى بقوا مدَّة عام كامل يستقبلون المُعزِّين في وفاته ويردون على الرسائل المواسية الَّتي تصل من مناطق عُمان وشرق إفريقيا والخليج. فالشَّيخ المهيب كان مرجعًا لأُسر الحُرث، ورجلًا من الرجال الَّذين حظوا بالتبجيل والاحترام، وهو من أحفاد الشَّيخ العالِم الورع الفقيه راشد بن سعيد الحارثي، قاضي الإمام «سلطان بن سيف الأول» على إبراء ونواحيها. وكانت حياة الشَّيخ عبدالله بن حمدون بن حميد الحارثي، في زمن غير الزمن الَّذي عاش فيه أسلافه، تحوُّلات عميقة في القِيَم والأعراف والتقاليد والممارسات وأنماط التفكير وأساليب العيش، تحررتِ الأفكار والمفاهيم، وتخففتِ الأجيال من ضغوط السَّبلة، وسَمْت التربية والقائمة الطويلة لمصطلحات «العيب»، وتطبيقاتها، ولكن مجلس الشَّيخ ظلَّ متمسكًا بقانونه الصارم الَّذي تواصَل لأجيال وقرون، لم تتمكن العصرنة من اختراقه، الخنجر والمصر والعصا، المناشدة عن الأخبار والعلوم، الهَيبة والاحترام والحديث اللَّبق الموزون، الحوارات العلميَّة الأدبيَّة، مناقشات عن الفلج والنخلة، والأمطار والأودية والتبسيل، أخبار الأوَّلين وقصص الفخر الَّتي تحتفظ بها ذاكرته... رحل الشَّيخ حميد بن عبدالله، ومن قَبله آباؤه، عبدالله بن سليمان، وسليمان بن محمد، ومحمد بن عيسى بن راشد بن سعيد، ومن بعده أبناؤه وأحفاده، وتواصلتْ سبلتهم مزدهرةً بالعِلم والأدب وفيَّة للتاريخ، تُدار في صحنها مقاديم القهوة ومآدب الضيافة العامرة، فقد تدفقتْ إلى نفس متصدرها مواريث آبائه المَجيدة، وصرامة التربية الَّتي عاشها وسحر القصص والمواقف الجريئة الَّتي سمعها، ونُبل وسُمو القِيَم والأعراف الَّتي استلهمها من مجالس أعمامه في المضيرب وأخواله في القابل، في مزج اتسم بثراء لم يتكرر، فتقلَّد أوسمتها تربيةً وأدبًا وعِلمًا ووفاءً ومروءةً وصدقًا وأمانةً وكرمًا وفطنةً وذكاءً متقدًا، ومارسها منذ الصغر مرورًا بمرحلة الشباب والشيب، وهو ما عبَّر عنه لفيف من الشعراء والأُدباء والكتَّاب في قصائدهم ونصوصهم وتغريداتهم الَّتي لا حصر لها، مصحوبة بالصوَر ومقاطع الفيديو للشَّيخ ومجلسه العامر بالناس، نقطف شيئًا منها للتعريف أكثر بهذه الشخصيَّة الجليلة والمؤثِّرة في مُجتمعها. في نصٍّ أدبي مدهش، بعنوان «أبلق الغلاجي»، للقاء «الأوفى من السموأل»، يُجيد الشَّيخ حمود بن سالم السيابي، بقلمه الأنيق إبهار قرَّائه في التعريف باستثنائيَّة شخصيَّاته الَّتي تتمثلها صوَره التعبيريَّة «هذا هو الشَّيخ عبدالله بن حمدون الحارثي في تعريشته الأبهى من الأبلق والأمنع من حصون «خيبر» و»تيماء»، يضيء كناسِكٍ متبتل، ولمجرَّد مصافحة الشَّيخ عبدالله بن حمدون الحارثي تكرر حبَّات مسبحة التاريخ وتتكلم «مذكّرات الشَّيخ أحمد بن محمد الحارثي» وإن لم تتحرك شفاه هذا الشاهد...»، والوفاء سِمة أصيلة ولصيقة بهذه الشخصيَّة المعروفة، فكان مضرب مثل منتشر بَيْنَ عدد كبير من العُمانيين، فيقال على سبيل التعبير والمقارنة لمن أخطأ وقصَّر في حقِّ والديه ورحمه، مما يُعَد عقوقًا، «كيه أنت ما عبدالله بن حمدون الحارثي في وفائه لخاله»، والعم العزيز، سجن نفسه اختياريًّا، أي بمحض إرادته، مرافقًا لخاله الَّذي قيّدت حُريَّته وأدخل السجن من ١٩٧٠ وحتَّى ١٩٨٠. وفي قصيدة للأديب الشَّيخ غصن بن هلال العبري، يمدح فيه عمَّنا الشَّيخ عبدالله بن حمدون الحارثي، من أبياتها، «... يا رب زد عمره من عمرنا فله * فينا من الفضل ما لو يحمل الصلحا * لسنا نزكيه لكنا على ثقة * من حسن سيرته للناس منشرحا * فداره كعبة القصاد يطرقها * من كان ذا سعة أو طالبا منحا...». وفي مقال صحفي نُشر في «النبأ» الإلكترونيَّة، عام ٢٠٢٣م بعنوان «نافذة من حياة الشَّيخ عبدالله بن حمدون الحارثي، كنموذج لدور الشَّيخ والمجلس في المُجتمع العُماني»، يكتب حمود الحارثي، ما يلي: «...تقودنا الذاكرة إلى مجلس الشَّيخ الَّذي أقلّ ما يُمكِن وصفه هيكليًّا بمكتب اعتماد ومحكمة وادعاء عام...إلخ، تتم من خلاله الإجراءات بيسر ولِين وفْقَ أنظمة عرفيَّة تحكمها العادات والتقاليد، أسمى أهدافها المصالحة والتسامح والمسالمة في حلّ أعقد القضايا، في حين كانت دورة التقاضي لا تتعدى الساعة، وإن قُلنا ساعات فقد نكُونُ مبالغين، من لحظة دخول الخصوم إلى مجلس الشَّيخ حتَّى يتمَّ البتُّ في الخلاف وحفظ الملف، في جوٍّ يَسُوده الرضا والألفة بَيْنَ الأطراف مختلفة الرأي، ويُعَدُّ ذلك الصلح حُكمًا نهائيًّا غير قابل للطعن أو النقض فيما بعد». فلا يغادر مجلس الشَّيخ ضيف أو ملازم له، مكتشفًا متعلمًا سائلًا عن معلومة ما، زائرًا مسلِّمًا عليه مطمئنًّا على صحَّته... إلَّا وقد وجد ضالَّته، وحصل على مراده وتفيَّأ ظلال الطمأنينة وشعَر بالراحة والسَّكينة، وامتلأت نفسه بهجة وسعادة، وتعرَّف على التفاصيل الدقيقة لتقاليد العُمانيين وأعرافهم وخصوصيَّتهم الَّتي توارثوها جيلًا عن جيل، يغادر زائر الشَّيخ برسالة إلى مسؤول تسهل إجراءات المعاملة والطلب وتساعده على ظروف الحياة وقسوتها، بمساعدة ماليَّة يحتاجها من قدم إلى مجلسه، بإجابة على سؤال وحصول على معلومة، واستشارة من عقل فطن خبر الحياة والناس، فيودعه والبِشر يتهلل من وجهه، فالنصيحة والرأي والمخرج لمشكلته الَّتي خرج بها لا تقدَّر بثمن، وعلاقة تنمو مع مجلس الشَّيخ وزواره، بحصيلة من الوعي والثقافة والمعرفة توافرت من المناقشات والحوارات الغنيَّة... إنَّه منبر مفتوح لمن قصده، يجد فيه الإنسان الحياة في أعمق معانيها وغنى التجربة وصدقها... اليوم وبعد أن فجعنا بهذا الفقد الجلل، ووارينا جثمان عمِّنا الشَّيخ الراحل، عبدالله بن حمدون بن حميد، وشاركنا في جنازته المثقلة بالهموم والأحزان، وشاطرنا المعزُّون دموعًا تنهمر وإن لم ترَ فالرجال بارعون في إخفائها عن أعيُن الرجال درءًا للفضيحة، واتقاءً للمقولة الرائجة «من العيب أن يبكي الرجال»، ملامح مثقلة بالأسى والكآبة وأجساد أوجعها الحزن، وقلوب فطرت بموت الشَّيخ، شعراء وأدباء يعلنون عن أحزانهم ويخففون من ثقل المصيبة بقصائد ونصوص الرثاء المعبرة والمثيرة للمواجع، نشير إلى بعضها: «ورعى الله راحلا ما بكته * غير بيض الشبا بيوم أليم»... «ولئن كنت قد رحلت فإنا * لا نقول الوداع للزعماء»... «سيد القوم والمكارم من لي * كاسمه في المهمات معنا وشكلا»... «ويوم ينعى الناعي رحيل الشَّيخ عبدالله بن حمدون الحارثي فإن حكاية عُمانيَّة تستعاد من مواريث الرجولة والمروءة والوفاء»... وها نحن مع لحظة إغلاق باب مجلس عزائه، نعلن في الوقت ذاته، عن إقفال أبواب مجلس بلغت شهرته الآفاق واستمر مفتوحا للعامَّة والخاصَّة، لما يقارب الثلاثة قرون.. فرحم الله عمَّنا الجليل، وأسكنه فسيح جناته وخفَّف عنَّا وقع مصابه العظيم...

سعود بن علي الحارثي

[email protected]