تطرح التحولات المتسارعة الَّتي يشهدها العالم اليوم تساؤلات عميقة حَوْلَ مصير القِيَم والمبادئ الَّتي شكَّلت على مرِّ العقود البنية الأخلاقيَّة للمُجتمعات، ويأتي المُجتمع العُماني ضمن هذا الإطار، مؤثرا ومتأثرًا بما يَدُور حَوْلَه من متغيرات، لكنَّه أيضًا كما عُرف عنه يمتلك الوعي واليقظة الفكريَّة والرصيد القِيَمي والأخلاقي الَّذي يجعله قادرًا على الوقوف في وَجْه هذه التحدِّيات والتكيُّف مع الظروف والمعطيات بما يحفظ جوهر القِيَم والمبادئ العُمانيَّة ويحافظ على نُموها وتطورها من غير أن تفقد حيويَّتها وأصالتها في المنظومات الاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة العُمانيَّة.
إنَّ من بَيْنِ التساؤلات الَّتي يُمكِن طرحها في ظل معطيات المرحلة الراهنة: هل ارتفع مؤشِّر الغيرة على القِيَم في سلطنة عُمان؟ وهل ما نشهده اليوم من حراك مُجتمعي ومؤسَّسي على حد سواء يُمثِّل صحوة قِيَميَّة حقيقيَّة تُعبِّر عن قلق وطني تجاه ما يحدُث من محاولات لتشويه القِيَم والخصوصيَّة والهُوِيَّة والثوابت والسَّمت العُماني؟ أم أنَّ الأمر لا يتجاوز كونه ممارسات فرديَّة ومواقف عابرة تعكس ارتفاع التأثيرات الخارجيَّة والداخليَّة المؤقتة للفضاءات المفتوحة ومنصَّات التواصُل الاجتماعي. إنَّ القراءة المتأنية لمجريات الواقع تشير إلى أنَّ هناك تصاعدًا ملحوظًا في الغيرة المُجتمعيَّة على القِيَم، فالكثير من ردود الفعل المُجتمعيَّة والهاشتاقات الَّتي تتناول موضوع القِيَم والهُوِيَّة والسَّمت العُماني وتستنكر الممارسات غير المسؤولة الَّتي تظهر من البعض كأفراد أو مؤسَّسات في منصَّات التواصل الاجتماعي، حالة صحيَّة تعبِّر عن قلق مُجتمعي متزايد من ممارسات دخيلة تتنافى مع السَّمت العُماني والهُوِيَّة الوطنيَّة، كما أنَّ الجهات الرسميَّة لم تَعُدْ في موقف المتفرج أو السلبي من هذا الحراك المُجتمعي الَّذي ألقى المسؤوليَّة على هذه المؤسَّسات الَّتي تقع هذه التجاوزات ضمن اختصاصاتها ومسؤوليَّاتها الرقابيَّة، لذلك بادرت بتفعيل أدوات الرقابة والمتابعة واتخاذ الإجراءات القانونيَّة والإداريَّة الصارمة لحماية النَّسق القِيَمي من التشوه والانحراف، مما يعزز من القناعة بأنَّ هناك حالة من اليقظة القِيَميَّة والوعي الجمعي المتزايد بمخاطر التراخي أو التساهل في التعامل مع ما يُرتكب من سلوكيَّات ومظاهر تتعارض مع القِيَم والذَّوق العام والأخلاق العُمانيَّة.
وفي السياق نفسه ورغم هذا التصاعد في الحِس القِيَمي، يظلُّ السؤال قائمًا: إذا كانت التشريعات العُمانيَّة قد أرسَتْ قاعدة صلبة من القِيَم والأخلاق عَبْرَ النظام الأساسي للدَّولة والقوانين والتشريعات النافذة، والَّتي أكدت جميعها على أهميَّة القِيَم والأخلاق كمرتكز في بناء الإنسان والمُجتمع، فلماذا يستمر القلق؟ وأين تكمن الإشكاليَّة؟ هل هي في ضعف التنفيذ؟ أم في غياب الوعي المُجتمعي؟ أم في التراخي في المتابعة والمحاسبة؟ إنَّ هذا التساؤل يقودنا إلى الاعتراف بأنَّ حماية القِيَم لا تتم فقط بالتشريعات، بل بتفعيل هذه التشريعات، وإدماجها في الممارسة اليوميَّة، وجعلها جزءًا من الثقافة المُجتمعيَّة المتجدِّدة.
الواقع أنَّ المُجتمع العُماني، رغم تجذره في أصالته، ليس بمنأى عن ما يحدُث في العالم، فالاتصال بالعالم الخارجي والانفتاح على الثقافة الرقميَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة فرض تحدِّيات غير مسبوقة، خصوصًا في ظلِّ مفهوم الثابت والمتغير من القِيَم، وما باتت تقدِّمه الكثير من العوامل والمسبِّبات عَبْرَ دخولها في تشكيل الهُوِيَّة القِيَميَّة بالإيجاب أو السلب، ولعوامل أسباب متعدِّدة أدَّت إلى دخول قِيَم جديدة أو إن صحَّ تسميتها ممارسات وظواهر سلبيَّة وعادات أسهمت في ظلِّ غياب المتابعة والرقابة عليها أو تساهل الناس في ممارستها إلى تأثيرها على القِيَم الأصيلة وباتت تنازعها موقعها في السلوك الاجتماعي وعَبْرَ زعزعة أو تغريب ثوابت المُجتمعات، وفرض أنماط جديدة من السلوك تتعارض مع القِيَم الإسلاميَّة والعادات والسَّمت العُماني، وقد نتج عن ذلك غربة القِيَم في موطنها، بسبب ما تبثُّه المنصَّات التواصل الاجتماعي من مشاهد ومحتويات وتوجُّهات قد تستهين بالثوابت وتنشر مفاهيم جديدة للحُريَّات المزيّفة والأفكار الهشَّة الَّتي تتجاوز الحياء والحشمة. وللأسف، أصبح بعض المستخدمين للمنصَّات الاجتماعيَّة من الشباب والشابات يندفعون خلف هذه التيَّارات الفكريَّة الَّتي يبثُّها المروِّجون للدعاية والإعلانات التجاريَّة وتأثيرهم الواقعي في حياة الشباب مدفوعين برغبة الشهرة أو الخروج من عباءة القِيَم، ما جعل منصَّات التواصل الاجتماعي وبشكلٍ خاص السناب شات والإنستجرام والتيك توك وغيرها بيئة خصبة لاختزال منظومة القِيَم وغربة الأخلاق وتحويلها في ظلِّ إفلاس المحتوى وغياب القدوات والنماذج.
هذا الهاجس القِيَمي لم يكُنْ مجرَّد رأي مواطن تحمله الغيرة على القِيَم العُمانيَّة إلى إبداء رأيه عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة، بل استشعار إنساني واستنهاض وطني لانتفاضة القِيَم، والَّتي شكَّلت هاجسًا للقيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ حيثُ جاءت الخطابات السَّامية لجلالته لِتُعيدَ التوازن في فَهْم القِيَم وارتباطها بالإنسان العُماني وبناء الدَّولة، كما لم تكُنْ رؤية عُمان 2040 بعيدًا عن هذا النهج، بل أدرجت القِيَم والهُوِيَّة ضمن أولوياتها في محور «المواطنة والهُوِيَّة والثقافة الوطنيَّة»، ما يعكس قناعة وطنيَّة بأنَّ التنمية المستدامة لا يُمكِن أن تنفصل عن الأخلاق، وأنَّ ثورة الاقتصاد لا تنجح ما لم يستند إلى مواطنة فاعلة وهُوِيَّة متجذرة وقِيَم ثابتة.
وبالانتقال إلى المشهد العملي، فإنَّ قراءة التوجُّهات المؤسَّسيَّة تكشف عن جهود جديَّة في حماية القِيَم من التشويه والانحراف، حيثُ اتخذت عدَّة جهات رسميَّة قرارات واضحة وجريئة، أبرزها:
• قرار الادعاء العام بتشكيل فريق «رصد» لمتابعة الظواهر السلبيَّة المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا ما يتعلق بالتشبُّه بالنساء أو غيرها من السلوكيَّات الَّتي تسيء للذَّوق العام وتخالف القوانين، حيثُ يعكس هذا القرار إدراكًا عميقًا بضرورة التصدي للمحتوى السلبي الَّذي يغزو الفضاء الرقمي ويؤثر في النَّشء.
• قرار هيئة حماية المستهلك بسحب أدوات مدرسيَّة تحتوي على رموز غير أخلاقيَّة أو دينيَّة مخالفة، لِيجسدَ يقظة حقيقيَّة في متابعة الأسواق، ويؤكد أنَّ حماية القِيَم تبدأ من التفاصيل، حيثُ تمَّ ضبط أكثر من (347) سلعة بمحافظة مسقط تحتوي على جماجم ورموز تتنافى مع القِيَم.
• أصدرت وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار مجموعة من القرارات الَّتي تحافظ على رموز الهُوِيَّة العُمانيَّة مثل الخنجر والدشداشة والحلوى، وحذَّرت من المساس بهذه الرموز أو الإساءة إليها، وكان من أبرز القرارات، القرار الوزاري رقم (209/2021) باعتبار الدشداشة العُمانيَّة مواصفة وطنيَّة ملزمة، في خطوة تهدف إلى حماية الزي التقليدي من التشويه وضمان بقائه راسخًا في الحِس الوطني والقناعة المُجتمعيَّة.
وفي المقابل، برز وعي مُجتمعي متزايد تجاه هذه القضايا، حيثُ استخدم المواطنون المنصَّات الاجتماعيَّة للتعبير عن استيائهم ورفضهم للممارسات الخارجة عن إطار القِيَم، من خلال هاشتاقات تعكس انزعاجًا من بعض التصرفات، سواء في الحفلات الغنائيَّة الَّتي تُنظم في المواسم السياحيَّة وتُصاحبها تصرفات لا تعبِّر عن السَّمت العُماني، أو عبر تداول مقاطع مرئيَّة تُظهر ممارسات غير لائقة، سواء من قبل مواطنين أو وافدين، تظهر على شكل إثارة جنسيَّة أو ملابس فاضحة أو حديث مبتذل يسعى إلى جذب الانتباه دون احترام للخصوصيَّة المُجتمعيَّة. أو في استنكار بعض الظواهر المقلقة الَّتي أخذت في الانتشار مثل «اللبس غير المحتشم» في الأماكن العامَّة، من مثل الشورتات الشفافة أو الضيقة، أو القمصان المكشوفة الَّتي تفتقد للحياء والذَّوق، وأصبح ذلك محلَّ انتقاد واسع على منصَّات التواصل، ودعوات لضبط هذه التجاوزات. ومطالبات بفرض قواعد وضوابط ولوائح صارمة على مرتادي المولات والمراكز التجاريَّة، وبِدَوْرها استجابت الجهات المختصة لهذا الأمر حيثُ فرضت شُرطة عُمان السُّلطانيَّة وبلديَّة مسقط وبلديَّة ظفار وجميع المؤسَّسات ذات العلاقة بالمواسم السياحيَّة، قيودًا مشدَّدة على الدخول باللباس غير المحتشم.
أخيرًا، ومع استمرار بعض الممارسات والظواهر الفرديَّة المشوِّهة للقِيَم والأخلاق، تتجلى الحاجة إلى تنسيق الجهود الوطنيَّة، لرسم رؤية واضحة في التعامل مع هذه التحدِّيات، وتغليظ العقوبات على مَن يستهين بالهُوِيَّة أو يعبث بالثوابت، إلى جانب رفع مستوى الوعي الجمعي بأهميَّة المحافظة على القِيَم ـ لتؤكد في الوقت نفسه أنَّ صحوة القِيَم في سلطنة عُمان ليست ردَّة فعل مؤقت، بل هي حراك وطني شامل تقوده الدولة والمُجتمع؛ يهدف إلى حماية الهُوِيَّة والسَّمت العُماني ورفع درجة الوعي الجمعي والحِس الأمني، فإنَّ ارتفاع مؤشر الغيرة على القِيَم حالة صحيَّة في مُجتمع يصنع من اقتصاد القِيَم والأخلاق نموذج لبناء سياساته الخارجيَّة والداخليَّة وتعزيز اقتصاده واستثماراته وموارده لخدمة مواطنيه، انطلاقًا من النهج الَّذي رسمه عاهل البلاد المُفدَّى في عاطر نطقه السَّامي: «ونُهِيبُ بأبنائِنَا وبناتِنَا التمسُّكَ بالمبادئِ والقِيَم، الَّتي كانت وستظلُّ ركائزَ تاريخِنَا المجيدِ،...».
د.رجب بن علي العويسي