السبت 13 سبتمبر 2025 م - 20 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : إعلان نيويورك.. بين إرادة العالم وهيمنة القوة

السبت - 13 سبتمبر 2025 04:30 م

رأي الوطن


جاء تصويت الجمعيَّة العامَّة للأُمم المُتَّحدة على إعلان نيويورك بشأن تنفيذ حلِّ الدَّولتين كاشفًا لوجْهَيْنِ متناقضَيْنِ للنظام الدولي، وَجْه يُعبِّر عن إرادة دوليَّة حقيقيَّة، تجسِّدها أصوات (142) دَولة اختارت أنْ تقفَ مع الحقِّ الفلسطيني ومع السلام العادل، ووَجْه آخر يفضح الخلل العميق في المنظومة الأُمميَّة، حيثُ تتصدَّر الولايات المُتَّحدة ومعها دَولة الاحتلال الصهيوني، ومعها مجموعة محدودة من الدول الصغيرة أو التابعة لها مثل الأرجنتين والمجر وباراجواي وميكرونيسيا وبالاو وبابوا غينيا الجديدة وتونجا، رافضةً هذا القرار الجامع، حيثُ تكشف هذه الخريطة أنَّ العالم أمام معادلة غريبة، ما بَيْنَ إرادة كونيَّة بأغلبيَّة ساحقة، تواجهها قوَّة منفردة تُمسك بمفاتيح القرار الدولي، وتعطِّل كُلَّ مسار نَحْوَ العدالة، وتحمي كيانًا استعماريًّا يمارس القتل والحصار والتجويع ويهدد الأمن الإقليمي والدولي، في مشهد يؤكِّد أنَّ النظام الأُممي لا يزال رهينة إرادة القوى الكبرى أكثر ما هو معبِّر عن ضمير الإنسانيَّة، ومن هذا المنطلق تتجه الأنظار إلى الطرف المعني أولًا بهذه الإرادة الدوليَّة، وهو الشَّعب الفلسطيني وقيادته، لمعرفة كيف سيتعاملون مع هذه الفرصة، وكيف سيحولون الإجماع الأُممي من مجرَّد قرار على الورق إلى رافعة سياسيَّة حقيقيَّة تعيد للقضيَّة مركزيَّتها على السَّاحة الدوليَّة.

ورغم تأكيد القيادات الفلسطينيَّة على ترحيبها بالقرار ودعوتها إلى أنْ يتحول إلى واقع ملموس على الأرض، يظلُّ الرهان الحقيقي في مواصلة النضال على الأرض، وهو المسار الَّذي اختاره الشَّعب الفلسطيني منذ بداية القضيَّة، وظلَّ حاضرًا في كُلِّ مراحل المواجهة، فما يعطِّل المخطَّطات الشيطانيَّة للاحتلال، ويكسر منطق القوَّة الغاشمة هو هذا الصمود الأسطوري الَّذي سيسجله التاريخ كعلامة فارقة في النضال الإنساني، يقف أمامه العالم مندهشًا من قدرة شَعب أعزل على مواجهة آلة حرب مدمِّرة، وعليه من الطبيعي أنْ يواصل الفلسطينيون هذا النضال في ظلِّ هذه الظروف الحرجة والهجمة الصهيونيَّة الشرسة؛ لأنَّ التراجع يعني محو القضيَّة بالكامل، بَيْنَما الاستمرار في المقاومة يعني الإبقاء على الحلم حيًّا وفرض حضوره على الطاولة الدوليَّة، مهما حاولتِ القوى الكبرى طمسه أو الالتفاف عليه.. وهنا يبرز الدَّوْر العربي كركيزة أساسيَّة لدعم هذا الصمود، فالمعركة صارت معركة هُوِيَّة ومصير تتطلب حشد كُلِّ أدوات القوَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميَّة، من أجْلِ موازنة الكفَّة على السَّاحة الدوليَّة.

هذا الدَّوْر العربي يَجِبُ أنْ يتجاوز البيانات التقليديَّة إلى بناء موقف موَحَّد، يستثمر الزخم الأُممي ويحوِّله إلى خطَّة ضغط متكاملة. فما قامت به السعوديَّة وفرنسا برعاية المؤتمر الأُممي يمثِّل خطوةً مهمَّة لإعادة الاعتبار للمسار السياسي، لكنَّه يحتاج إلى متابعة حثيثة من الدول العربيَّة، سواء عَبْرَ استصدار قرارات ملزمة في مجلس الأمن، أو عَبْرَ استخدام أوراق القوَّة الاقتصاديَّة والدبلوماسيَّة لفرض وقف العدوان ورفع الحصار، ودعم الفلسطينيِّين ماديًّا وسياسيًّا لمواصلة الصمود، فالعالم يحترم مَن يمتلك أدوات القوَّة ويستخدمها بذكاء، واللَّحظة الرَّاهنة تُمثِّل فرصة حقيقيَّة لتوحيد الصَّف العربي وإعادة تعريف العلاقة مع القوى الكبرى، بحيثُ يكُونُ الموقف العربي عنصر ضغط لا مجرَّد متفرج ينتظر ما تُقرِّره العواصم المؤثِّرة.

اعتماد إعلان نيويورك بأغلبيَّة كاسحة قد يكُونُ الفرصة الأخيرة للنظام الدولي؛ كَيْ يستعيد جزءًا من مصداقيَّته الَّتي تآكلت بفعل ازدواجيَّة المعايير، وتغوُّل المصالح السياسيَّة على مبادئ العدالة، فالعالم اليوم أمام اختبار تاريخي، إمَّا أنْ تتحولَ هذه القرارات إلى خطَّة عمل واضحة بجدول زمني مُلزِم وآليَّات متابعة وعقوبات على مَن يخرقها، وإمَّا أنْ تنحدر الأُمم المُتَّحدة أكثر نَحْوَ أنْ تصبح منبرًا للكلام بلا أثر. إنَّ استمرار الجرائم الصهيونيَّة في ظلِّ قرارات أُمميَّة بلا تنفيذ لن يترك خيارًا أمام الشعوب سوى تصعيد المقاومة بكُلِّ أشكالها، ما قد يَقُود إلى انفجار إقليمي واسع لا أحَد يملك السيطرة على تداعياته.. فالرِّسالة الَّتي يَجِبُ أنْ تصل إلى القوى الكبرى هي أنَّ الوقت لم يَعُدْ يحتمل إدارة الصراع، بل حسمه بعدالة حقيقيَّة؛ لأنَّ الشَّعب الفلسطيني قرَّر أنَّ بقاءه على أرضه هو معركته الوجوديَّة، وأنَّ مقاومته ليست حدثًا عابرًا، بل قدر تاريخي يصنع مستقبل المنطقة.