الخميس 18 سبتمبر 2025 م - 25 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

المولد النبوي والرقي الإنساني «3»

الأربعاء - 10 سبتمبر 2025 01:32 م
20

عندما يَهِلُّ شهر ربيع الأول، شهرُ ميلاد رسول الإنسانية، ونعمة الله تعالى على هذه البرية، ومنته على كل البشرية، نتذكر حجم النعمة، وعِظَمَ المِنَّةِ، وكمال العطاء الإلهيِّ، وتمام الرضا الربانيِّ على هذه المرحلة الأخيرة من مراحل الحياة الإنسانية التي شَبَّتْ فيها عن الطَّوْقِ، وبلغتْ شَأْوًا واسعًا من الحضارة، والتقدم، غير أنها كانت لا تزال قبل المولد تترنَّح يَمْنَةً، ويَسْرَةً في تلك الملل، وهذه النحل التي اخترعَها البشر، عن جهل وضلال، حتى كان المسجدُ الحرامُ نفسُه يمتلئ بالأصنام التي تُعْبَدُ من دون الله، وتُقَدَّمُ لها القرابينُ، وتُذْبَح بين يديها الذبائحُ، وكانت كلُّ قبيلة تتخذ من الطيور إلها لها، ومن البقر.. وغيرها معبودًا تعبده من دون الله، وبلغتِ الوثنيةُ حَدًّا بعيدًا من البعد عن الله، والاقتراب من الشياطين التي أَوْحَتْ إليهم بأن تلك الآلهة المصنوعة بأيديهم تنفعهم وتضرهم، حتى إنك لتجدُ الرجلَ الضخمَ الجثةِ يجلس بين يديها، وهي حجارة مصنوعة من يديه يستشيرها، ويستخيرها، ويستخبرها:(أيصنع تلك الصفقة، أو يسافر تلك السفرة أم لا؟)، وكانت حياتهم ظلامًا، وجهلًا، وضَلَالًا، وكانت أموالهم موجَّهة إلى تلك الأصنام، ومن يقوم على شأنها: تجهيزًا، وإعدادًا، وصنعًا، بل كان أحدهم يصنعها من الحلوى، فإذا جاع أكلها، فقد وصل الضلالُ في العقيدة منتهاه، وأمستِ الأرضُ تنتظر مَنْ يخلِّصها من كابوس الوثنية، وهواجس الأصنام، وضغط الأوثان حتى أشرقتْ شمسُ المولد النبوي الشريف، ورأى الناسُ ما رأوه من النور، والإشراق، والعدل، والسماحة، وتذوقوا طعم الأخوة، ومعنى التضحية، وجلال الإيثار، وسُمُوَّ النبل، وعرفوا معنى البذل، ورأوا بأمِّ أعينهم كم قَدَّمَ الرسولُ الكريم للإنسانية من عطاء، وخدماتٍ، وأعمالٍ، وأخلاقٍ، كانت يومًا ما تحلم بها تلك البشرية الحيرى، وتتمنى أن يأتيَ رسولٌ أو ملكٌ من السماء؛ ليجعلها واقعًا مَعِيشًا حتى جاء البدرُ، وأشرقتْ شمسُ العبوديةِ الْحَقَّةِ، والعبادة الصحيحة، والاستقامة الحقيقية، وأنار الرسولُ وجهَ الأرضِ بمولده، ثم بمبعثه الشريف، حتى إن السيرة لَتُحَدِّثُنَا أن آمنةَ بنتَ وَهْبٍ، أمَّ الرسول الكريم قد رأت ـ عند ولادته ـ نورًا يخرج منها يضيء ما بين بُصْرَى والشَّامِ (ما بين الخافقين)، وقد رأى الناس من الأحداث ما يبيِّنُ أن الكون على موعد كبير مع التغيير التام، والاعتدال القويم، فرأوا أن بحيرة ساوة (وهي بحيرة مغلقة مالحة، تقع في محافظة المثنى، جنوب العراق، بالقرب من نهر الفرات، تتميز بكونها بحيرة مغلقة لا يوجد بها أيُّ أنهار، أو مصادر مياه سطحية، بل تتغذى على المياه الجوفية التي تتدفق إليها عبر الشقوق، والصدوع من نهر الفرات في السنوات الأخيرة، تعرضت البحيرة للجفاف بشكل متزايد، حيث جفَّتْ تمامًا في أبريل 2022م لأول مرة في تاريخها الموثق) هذه البحيرة قد غار ماؤها، وأن نيران فارس التي ظلتْ قرونا من الزمان تُعبَد من دون الله قد انطفأتْ، وأن إحدى عشرة شرفةً من إيوان كسرى قد انهارت تمامًا، وتهدمت، وتَصَدَّعَتْ؛ كلُّ ذلك كان دليلًا على انقشاع الظلم، وذهاب الظالمين، وحلول العدل، وتخليد العادلين، وأن الأخلاق الطيبة قد وُلِدَتْ بمولده الشريف، أيْ: أنه عندما وُلِدَ المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ملأ ميلادُه الكونَ نورا ساطعًا، فالكائنات كلُّها ضياءٌ، ونورُ، وإذا الدنيا كلُّها تبتسمُ، وتَمْتَدِحُ هذا الميلاد العظيم، والفضل الكبير من الله على عباده بإشراقة مولده، ونزول نوره، وسطوع هيئته، وبزوغ شمس العدالة، وسطوع نور الهدى، واندثار الباطل، والشرك، والظلم، والظلمات، وشاع في الكون نور محمدٍ كالبدر. وقال الله مُلَخِّصًا ميلاده، ومبعثه الشريف بقوله سبحانه:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، فهذا أسلوب حصر، وقصر، فقد جعل الله رسالته وقفا على رحمة الناسِ كلِّ الناس، لا تخصُّ رحمته أهلَ الإيمان وحدهم، وإنما تتسع لتشمل كلَّ العالمين على اختلاف مِلَلِهِمْ، ونِحَلِهِمْ، وعَبَّرَ الله عن ذاته العلية بـ(نا) الدالة على الفاعلين؛ تعظيمًا، وتوقيرًا له ـ سبحانه ـ وخصَّ الرسول بكاف الخطاب؛ لأنه الرسول الخاتم لكلِّ مسيرة الأنبياء قبله، فاختصه بذلك تكريمًا له، ولأمته، وحصر الرسالة في الرحمة العامة للعالمين أجمعين، فقدَّرَ اللهُ بميلادِ رسولِهِ الكريمِ الرحمةَ التي قد شملتِ الخلق جميعًا، والبشر قاطبةً؛ فقد قال الله تعالى في محكم التنزيل:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة ـ 128)، ويقول الله تعالى:(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة 15 ـ 16).

ونتوقف عند آية سورة التوبة وِقفةً بلاغيةً تربويةً؛ لنتعرف طبيعةَ الشخصية النبوية، وكُنْهَ رسالتها، وماهيةَ وظيفتها؛ لنمضيَ بناءً عليها مسيرتَنا، وسيرتَنا؛ ولنكون مؤتسّين به، مقتدين بسيرته المطهرة، وسيرته المكرمة، وسنته العطرة أقوالًا وأفعالًا استنانًا تامًّا، واقتداء كاملًا.

د.جمال عبدالعزيز أحمد 

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]