الأربعاء 03 سبتمبر 2025 م - 10 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : ثقافة الهدوء فـي مواجهة عوامل التوتر المجتمعي

في العمق : ثقافة الهدوء فـي مواجهة عوامل التوتر المجتمعي
الثلاثاء - 02 سبتمبر 2025 01:34 م

د.رجب بن علي العويسي

160


الصُّورة الذِّهنيَّة التَّي يحملها الكثير من الأشخاص بعد الإجازة وبدء العام الدِّراسي والعودة إلى العمل، والتَّي قد يرافقها من أوَّل وهلة مشاهد الازدحام المروري وضغوطات العمل وكومة التَّراكمات التَّي يقرؤها البعض في انتظار تخليص معاملة أو أداء مهِمَّة، قد تتحول إلى دافع سلبي يرسم مسار حياة البعض، فتتولد من خلالها مشاعر التَّذمُّر واليأس، ويعلو جنباتها الصَّخب والتَّوتُّر وعدم الاستقرار، ممَّا يزيد من حدَّة الغضب والانزعاج في مواجهة الأحداث والمستجدَّات.. هذه المواقف في حقيقتها حالة صحيَّة في حياة الإنسان، وفرصة لالتقاط الأنفاس والتَّفكير خارج الصُّندوق والبحث عن مساحات أمان أخرى تحمل نمطًا حياتيًّا متجدِّدًا يرقى بالإنسان فوق أنانيَّة النَّفْس، لِتتَّجهَ به نَحْوَ طَرق أبواب الهدوء والتَّروِّي، والتَّأمُّل، ومنح النَّفْس فسحة من الوقت للتَّفكير الهادئ، من أجْلِ اتِّخاذ قرارات أكثر حكمة، تتماشى مع طبيعة الظُّروف وتتناغم مع حساسيَّة الواقع. فالمساحة الهادئة في التَّفكير ليسَتْ ترفًا، بل حاجة إنسانيَّة تُثري النَّفْس وتزرع في الوجدان أثرًا روح التَّغيير الممنهج، لِتكُونَ القرارات النَّاتجة أكثر توازنًا، والخيارات المتاحة أبعدَ عن الاندفاع والتَّهوُّر، وأقرب إلى المعالجة الواعية والسُّلوك الرَّاقي الَّذي يعكس روح التَّسامح والاعتدال، فيصبح العمل به فضيلة، والحرص على تحقيقه مندوحة، دفعًا للمفسدة، ومنعًا من سُلوك التَّهوُّر، أو الدُّخول في متاهات غير محسوبة العواقب، والطَّريق الأسلم للمعالجة، والمنطق الرَّفيع للمواجهة.

وفي هذا السِّياق، تُمثِّل عودة الطَّلبة إلى مقاعد الدِّراسة، وعودة الموظفين إلى أعمالهم بعد إجازات صيفيَّة ممتعة، لحظة اختبار لهذه الثَّقافة. إذ سرعان ما يجد الفرد نَفْسه في مواجهة مع واقع مختلف؛ ازدحام مروري وضغوط مهنيَّة وتراكم في الأعمال. ومن هنا تتجلَّى أهميَّة الهدوء في قيادة المَركبة، وفي تقبُّل الزِّحام كجزء من دَوْرة الحياة، والنَّظر بإيجابيَّة إلى التَّفاصيل الصَّغيرة، التَّي يُمكِن أن تصنع الفارق في المشاعر والسُّلوك، لِتصبحَ محطَّة للتَّأمُّل والتَّبصُّر والانتظار، وتحقيق أعظم درجات الالتزام، فمثلًا مشهد الازدحام المروري المتوقَّع أن يزداد بدوام الطَّلبة والعودة إلى الأعمال مساحة تغييريَّة تجسِّد في قائد المَركبة مساحة واسعة من الهدوء والانضباط والتَّحمُّل والإيجابيَّة والنَّظرة التَّفاؤليَّة والبُعد عن الأثَرة والأنانيَّة في استخدام الطريق والتَّي ستكُونُ عونًا له في تجاوز الحالة المروريَّة. وهي فرصة يستدرك خلالها الفرد معطيات الحياة والوقوف على تفاصيلها الدَّقيقة لِيقرأَ فيها موقعه ومساره والبوصلة التَّي يتَّجه بها لتحقيقِ الفعل وممارسة السُّلوك، لِتضعَ الفرد أيًّا كان أمام مرحلة جديدة يستشعر فيها الفرص ويستحضر زحام النِّعم التَّي وهبَها الله له، والتَّأمُّل فيما يعيشه كُلُّ فرد في هذا الوطن من نعمة الأمن والسَّلام، فالفرص موجودة، والسَّعادة يُمكِن أن تقرأ في أبسط التَّفاصيل، وأنَّه رغم هذه المعطيات والظَّواهر الوقتيَّة يبقى وجود الحلول متاحة، فعوضًا عن ترك هذه الظُّروف تتحكم في الأمزجة، ينبغي أن نستحضر نعم الحياة وفرصها المتاحة، وندرك أنَّ السَّعادة لا ترتبط بزوال الضُّغوط، بل بقدرتنا على التَّعامل معها بحكمة وهدوء. فثقافة الهدوء تصنعها النَّفْس الواعية، وتبنيها التَّجارب المضيئة، وتؤكِّدها المواقف المتَّزنة، لِتصبحَ ممارسة أصيلة لا ترتبط بردَّات الفعل، بل تنبع من قناعة داخليَّة بأهميَّة الثَّبات والاتِّزان وضبط السُّلوك. نَعم قد تبقى هذه التَّراكمات حوادث عرضيَّة وضروريَّة في تمحيص السُّلوك وإتقان لُغة الفعل والثَّبات على المبدأ وإعادة إنتاج القِيَم واستنطاقها ليستنهضَ به نفسه ويصنع بها عالمه، لذلك يصبح خِطاب النَّفْس للنَّفْس وخِطاب الآخر لها أو خِطابها للآخر مبنيًّا على قواعد إيمانيَّة عنوانها أنَّ التَّغيير صناعة النَّفْس، وإصلاح المواقف يبدأ من الإنسان نَفْسه، والصُّورة التَّي يسقطها على واقعه وعلى ظروفه، بل إنَّ في إعادة التَّفكير والممارسة التَّأمليَّة مساحة لاستعادة الذِّكريات الجميلة والمواقف المريحة في إطار إعادة هندسة المسار وضبط السُّلوك وإنتاج ممارسة مُتجدِّدة من رحم الظُّروف والشَّدائد والمواقف.

إنَّ المتابع لواقع حياة النَّاس وتعاطيهم مع العديد من القضايا المُجتمعيَّة وتصرُّفهم نَحْوَها والسُّلوك الحاصل مِنْهم بشأنها، وسُلوك الصّراخ والانفعال المُفرط والتَّوتُّر في الشَّارع، والبيت، والعمل، وحتَّى في الفضاءات الرَّقميَّة. يعكس خللًا في فَهْم فلسفة التَّوازن، ويستدعي إعادة قراءة مفهوم إعداد الإنسان وبنائه الفكري والسُّلوكي والوجداني والعاطفي ومراجعة لمستوى فَهْمه لفلسفة التَّوازن وتعاطيهم مع مفاهيم الهدوء وضبط النَّفْس والحاجة إلى السَّكينة، وصبغ الحياة اليوميَّة بمزيدٍ من التَّروِّي في الفَهْمِ والانتظار في تبرير المواقف والتَّأمُّل برهة من الزَّمن في سبيل إعادة الحساب لكثير من موازين العمل باعتبارها قِيَمًا تربويَّة ومفاهيم حياتيَّة بحاجة إلى مزيدٍ من التَّأطير لها وبناء مساراتها في حياة المواطن منذُ سنواته الأُولى، فإنَّ ممارسة الهدوء كثقافة وفضيلة وسُلوك وخُلُق ليسَتْ انسحابًا من مواجهة الواقع أو هروبًا من تبعاته، ولكنَّها فرصة لتقييم الوضع، وفَهْم مقتضيات الفعل، وتعميق قِيمة الذَّات في التَّعامل مع الأحداث، فمِنْها تتولد الثِّقة بالنَّفْس والقدرة على التَّعامل مع الأحداث بعيدًا عن التَّسرُّع والتَّأثُّر بالمواقف الآنيَّة، وهذا يتطلب وعيًا جمعيًّا وثقافة مُجتمعيَّة تسند هذا السُّلوك، وتُعزِّز من قِيَمه في حياة الأفراد، لِتنتجَ مُجتمعًا يتمتَّع بالثِّقة، ويتبنَّى مفاهيم الالتزام، ويمتثل لِمَا تقرُّه الدَّولة من مبادئ ونُظُم تحفظ وحدة الوطن وتُعزِّز وعي أبنائه. متجاوزةً كُلَّ ما ينتج عن سُلوك التَّهوُّر من تضييع للحقوق، أو سَلب للخصوصيَّة في الرَّأي، أو تغيير لنمطِ العمل السَّليم.

وإنَّ ممَّا ينبغي التَّأكيد عَلَيْه في هذا الشَّأن بأنَّ تعظيم ثقافة الهدوء وترسيخ أبجديَّاتها واستدراك قِيمتها المضافة في حياة الفرد والمُجتمع، والتَّعاطي معها كسُلوك في حياة الإنسان لا يمنعه في المقابل من المسارعة نَحْوَ الخير والمعروف، والسَّعي الحثيث نَحْوَ بلوغ الأهداف في ظلِّ إرادة وعزيمة وحماس واستنهاض للنَّفْس وجِدٍّ واجتهاد وعمل ومثابرة وسعيٍ واستمراريَّة وإلحاحٍ نَحْوَ تحقيقها. إنَّ ثقافة الهدوء فرصة لإعادة التَّأمُّل في التَّفاصيل البسيطة واحتوائها والانطلاقة مِنْها في إحداث ثورة التَّغيير، لِتنموَ مع الفرد وتُعيدَ تقييم الممارسات، لِتظهرَ ثقافة الهدوء والحكمة والتَّروِّي في الأحكام والقرارات من غير مضرَّة بأصحاب المصلحة في تأخير مصالحهم أو عدم الوفاء بالالتزام نَحْوَهم، وفي التزام القرار الحكيم الَّذي يستحضر مُكوِّنات المُجتمع ويَضْمن تحقيق العدالة والمصداقيَّة في التَّنفيذ، فتبْني فيهم عوامل القوَّة والرِّيادة، والتَّفرُّد والخصوصيَّة، التَّي يتميَّز بها مُجتمعهم عن غيره، فلا وصيَّة للفرد على الدَّولة، ولا ازدواجيَّة أو تدخُّلات في القرار الرَّسمي، فالأمر موكول لأهله، والعمل قائم على منهج الثَّبات في المبادئ، الَّتي لا تتزعزع بتحرشات البعض وطيشهم.

إنَّ ثقافة الهدوء بذلك محطَّة تأمل واستنطاق القِيَم واستنهاض الهمِم واستمطار الأفكار بالتَّفكير خارج الصُّندوق وتجريب البدائل والسيناريوهات الأكثر إنتاجيَّة وتحقيقًا للفاعليَّة والأقل في هدر الوقت والجهد والمال والتَّفكير، بمعنى أنَّ ثقافة الهدوء عِندَما تترسخ في الذَّاكرة وتسري في القناعات وترتفع فوق الأوهام التَّي ينسجها الفرد حَوْلَ واقعه؛ وتبقى المواقف الصَّعبة، والتَّجارب المؤلمة، والتَّراكمات الحياتيَّة ليسَتْ سوى اختبارات تعليميَّة وتصحيحيَّة، ومواقف تُعيد الإنسان إلى ذاته، وتمنحه فرصة لتجديد العهد مع مبادئه، واختبار قدرته على ضبط انفعالاته، وصناعة قراراته بعقلانيَّة. فليس الصّراخ أو الغضب أو التَّسرُّع أدوات حلٍّ، بل قد تكُونُ عوامل مقلقة تُبعد الفرد عن اقتراح الحلول، أو تمنعه من رؤية الصُّورة كاملة؛ فإنَّ ثقافة الهدوء في جوهرها دعوة لإعادة النَّظر في التَّفاصيل الصَّغيرة التَّي تُشكِّل يوميَّات حياة الإنسان، وجعلها منطلقًا لصناعة التَّغيير وتحقيق الإنجاز فإنَّ الصّراخ والضِّيق والتَّسرُّع في إصدار الأحكام ليسَتْ حلولًا وقائيَّة أو علاجات لحالة القلق، بل جزء من تفاقُم المُشْكلة واتِّساع الهُوَّة وتغييب الأولويَّات ورفع درجة الهدر الفكري والنَّفْسي إلى أعلى مستوياتها.

أخيرًا، تبقى حوكمة ثقافة الهدوء وتعظيم حضورها في بيئة العمل والأُسرة والشَّارع والخِطاب الإعلامي والمؤسَّسات البرلمانيَّة والمجالس التَّشريعيَّة واللِّقاءات الحواريَّة وقاعات الانتظار والحوار الاجتماعي والمنصَّات الاجتماعيَّة منهجيَّة حياة، وثقافة عمل، ورؤية عميقة في فَهْم الذَّات والآخر، وبوَّابة لتحقيقِ التَّوازن بَيْنَ التَّوقُّعات والمتطلَّبات. إنَّها لُغة حالمة، ومنهجيَّة فاعلة في التَّأثير، وصناعة الأثَر، وبناء مساحات الأمان، وأداة للسَّلام النَّفْسي والاحتواء الاجتماعي، ورسالة يتوجب ترسيخها في الأجيال، لِتكُونَ عنوانًا لسُلوكهم، ومفتاحًا لرُقيِّهم، وجسرًا لعبورهم نَحْوَ المستقبل بثقة وطمأنينة.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]