مؤخرًا، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها بالنقاش حَوْلَ القَبول الجامعي، وعدد الطلبة المقبولين، والتخصُّصات المتاحة، وكان السواد الأعظم من الأصوات يأسى على حال المسيرة التعليميَّة في البلاد ـ رغم أنَّها مبالغة غير ضروريَّة، ولكن هذا هو حال التواصل الاجتماعي ـ. لكن دعوني أقول لكم شيئًا ـ رُبَّما سيزيد الطين بِلة ـ إنَّه بَيْنَما ننشغل في التندر والتحليل والتهويل والمبالغة بعدد المقاعد ومحدوديَّة الفرص في التعليم العالي، هناك مدارس خاصَّة في قلبِ عُمان بدأت تكتب قصَّة مختلفة، ومن المُهمِّ أن نتعرفَ عَلَيْها.. وتتمثل في قيام مدارس تابعة لإحدى الجاليات الآسيويَّة في سلطنة عُمان بإدخال مادَّتي الثقافة الماليَّة والذَّكاء الاصطناعي في مناهجها ابتداءً من الصَّف الخامس، أي في عُمر لا يتجاوز العاشرة، حيثُ الطفل ما زال في طور التشكُّل الفكري والنَّفسي، وكأنَّهم يرددون بيت الشاعر:
وينشأ ناشئُ الفتيانِ فينا
على ما كان عوَّده أبوه
تعالوا لنحلل: الثقافة الماليَّة ستُدرَّس منذُ هذا العام لتعويد الطالب على إدارة مصروفه وفهم معنى الادخار والإنفاق، بَيْنَما الذَّكاء الاصطناعي الَّذي أصبح الشغل الشاغل لدول العالم سيدرسه الشَّاب الآسيوي الصغير الَّذي يعيش في السَّلطنة منذُ الصَّف الخامس.
في المقابل:
يملك التعليم الوطني في عُمان رؤية طموحة تتجسد في «عُمان 2040» وخطط التَّنمية الخمسيَّة، وكما أُعلن، فقد شاركت وزارة التربية والتعليم مع منظَّمة اليونسكو في عام 2022 في حلقة عمل متخصصة لدعم تطوير مناهج الذَّكاء الاصطناعي، إضافةً إلى برامج الرقمنة وتزويد المدارس بالأجهزة الحديثة. وفي الحقيقة أطلعتني أُمُّ أولادي على صورة للسبورة الذكيَّة وغيرها من الأدوات الَّتي يبدو أنَّها تزحف ببطء أمام التفوق الهائل في دول الجوار! عمومًا، قد يقول قائل إنَّ المِنْهاج الوطني بدأ بالفعل يدخل شيئًا من مفردات التقنية الحديثة في بعض المراحل التعليميَّة، ويتمُّ إدخال الأدوات والأساليب تدريجيًّا، وهذا صحيح، لكن الحقيقة أنَّ ذلك يحدُث بعد أن طارت الطيور بأرزاقها أو لِنَقُل الوحوش بطرائدها، فالعالم يمضي سريعًا إلى الأمام، وهناك من سبقنا بخطوات واسعة.
دعوني أوضح نقطة مهمَّة، المقالة ليست بهدف الانتقاد، هل استطاعت الجالية الآسيوية القيام بكُلِّ ذلك في مدارسها؟ فهذا يعني أنَّ إدخال هذه المقررات ليس بعيدًا عن متناول مدارسنا الحكوميَّة، فالمعلمون يتطلعون للتطوير، والطلاب لدَيْهم شغف بالتقنية، والأُسر باتت أكثر إدراكًا لأهميَّة الثقافة الماليَّة في زمن التجارة الإلكترونيَّة والقروض والبطاقات البنكيَّة، وفي زمن ضريبة القِيمة المضافة، وارتفاع خدمات المياه والكهرباء، والفواتير الَّتي تصبُّ على الرؤوس من كُلِّ حدب وصوب وغيرها من التَّحوُّلات الَّتي تفرض على الفرد وعيًّا اقتصاديًّا وإداريًّا مختلفًا.
الدروس المستفادة واضحة: الإصلاح التعليمي يحتاج إلى قرار جريء، لا إلى انتظار طويل ولا إلى مشي السلحفاة، فهذه ليست سياسة خارجيَّة لِكَيْ نعملَ بصمتٍ!! فيُمكِن البدء بوحدات مبسطة عن الذَّكاء الاصطناعي في مادَّتي العلوم والحاسوب، أو حصص تعريفيَّة في الثقافة الماليَّة للمرحلة الابتدائيَّة، ثم تتوسع التجربة تدريجيًّا لِتصبحَ جزءًا راسخًا من المِنْهاج، كما أنَّ إشراك الجامعات والقِطاع الخاص سيساعد على توفير خبرات عمليَّة تثري التجربة وتمنحها بُعدًا واقعيًّا.
عزيزي القارئ: التعليم ليس مجرَّد مقاعد جامعيَّة ولا امتحانات نهائيَّة، بل هو استثمار في مستقبل وطن، وإذا كان طلاب المدارس الجاليات الآسيويَّة في عُمان يستعدُّونَ منذُ هذا العام ليكُونُوا جزءًا من العالم الرَّقمي والاقتصادي الحديث، فمن حقِّ أبنائنا في المدارس الحكوميَّة أن يحظوا بالفرصة ذاتها، الزمن لا ينتظر، وكُلُّ عام نؤجِّل فيه إدخال هذه المقررات هو عام نخسر فيه خطوة في سباق المعرفة. وما زاد الطين بِلة أنَّ بعض الدول من حَوْلِنا أعلنت إلغاء الامتحانات التقليديَّة، والاكتفاء بتقييم مُعلِّم المادَّة كأساس لقياس أداء الطالب، في خطوة تعكس شجاعة في إعادة تعريف مفهوم التعليم والتقييم معًا. لكنَّ النظرة الإيجابيَّة أنَّ الطريق مفتوح، والإمكانات متوافرة، وما نحتاجه هو قرار جريء يترجم الطموح إلى واقع.
المستقبل يخصُّ أولادنا جميعًا، وما نراه حَوْلَنا ليس مدعاة للحسرة، بل جرس تنبيه يدعونا إلى الاستفادة من تجارب الآخرين والبناء عَلَيْها.. فالمسألة ليست سباقًا بَيْنَنا وبَيْنَ مدارس الجاليات، بل سباق مع الزمن ذاته، وهنا أقول: أيُّها المعنيون، ارحمونا من (اشترِ السبورة الفلانيَّة والدَّفتر الفلاني وحصاد وتلخيص والاختبار).. هذا الزمن انتهى!!
المنتصر بن زهران الرقيشي