الخميس 18 سبتمبر 2025 م - 25 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

المولد النبوي والرقي الإنساني «1»

الأربعاء - 27 أغسطس 2025 01:48 م
50

يجيء شهر المولد النبوي، فيذكِّرنا بنعمة الله الممتَنِّ القوي، على تلك البشرية الحَيْرَى على درب السُّبل، وتشتُّت الفِكْر؛ ليضع لها سبيلا أمثلَ، وطريقًا أنهجَ، وشريعةً سمحاءَ، ويبعث لها خاتمَ الأنبياء، وسيدَ الأتقياء، الذي كان مولده نورًا، ورُقِيًّا، وعطاء ربانيًا، وامتنانًا إلهيًّا، ارتقتْ معه النفسُ الإنسانية، وتوسَّدت مكانها، ورُفِعَتْ إلى سامي مقامِها، وفي القول الكريم كشفٌ لتلك النعمة، وتوضيحٌ لتلك المِنَّة، حيث يقول الله تعالى:(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران ـ 164).

فالله قد أعلمنا في محكم كتابه أنه بمولد الرسول، وابتعاثه إلى خَلْقِهِ، وهو خاتم الأنبياء إنما هو محضُ فضلٍ، وكبيرُ امتنانٍ على كلِّ المؤمنين بالله، هذا الرسول الكريم كان مهمتُه متكاملةً، حيث تلا عليهم آياتِه النورانيةَ، وكلماتِه الإلهيةَ، وزكَّاهم، وطهَّرهم من أدران الشرك، وأوضار الوثنية، وتبعاتِها الثقيلة، وعلَّمهم كتابَه الكريمَ، والحكمةَ، وهي السُّنَّة المطهَّرة، بعد أن رَزَحُوا رَدْحًا طويلًا من الزمن تحت وطأة الضلال القاتل، والشِّرْك الماحي، والاستعباد لبعضهم بعضا، فكان مولده، وبعثه مَحْضَ مِنَّةٍ، وكبير نعمة، تَمَكَّنَ البشرُ معها من عودتهم إلى إنسانيتهم، وتوسَّدوا مكانتهم، وارتقاءَهم قمةِ الإنسانية، والرقيَّ البشريَّ، وصاروا عبادًا لله الواحد الأحد، بعد أن كانوا يعبدون أوثانًا، ويركعون لأصنامٍ لا تضرُّ، ولا تنفع، بل تُضِلُّهم، وتأخذ بهم إلى مهاوي الرذيلة، وتُبْعِدهم عن مكامن الفضيلة، فرفعهم، ومكَّنهم من أن يكونوا أحياءً يُكْرِمُ بعضهم بعضا، حتى وصلوا إلى قمم الإيثار، بحيث كان الواحد منهم يذهب في غفلةٍ من أخيه لِيَسُدَّ عنه ديونَه من غير أن يُعْلِمَه؛ حتى لا يُرِيقَ ماء وجهه، وعندما يأتي المَدِينُ إلى الدائن ليدفعَ دَيْنَهُ يقول الدائنُ للمدين: لقد سدده عنك أحدُ القوم، لم يَوَدَّ أن يذكر اسمَه، ولا يأخذ الدائن من المَدينِ دينَه؛ لأنه كان قد حَصَّلَهُ من قبلُ، أو دُفِعَ إليه من قبلُ، ووصلنا من الإيثار حدًّا بعيدًا، وبلغنا شأوًا كبيرًا؛ حتى طالعتْنا عبارةُ أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ في رحلة الهجرة لما كان معهما شربةُ ماءٍ واحدةٌ، إذا شربها أحدُهم كَفَتْهُ بأدنى حَدٍّ من الكفاية، ولكنَّ أبا بكر ـ بعد أن تعلَّم قِمَمَ الإيثار ـ أعطاها للرسول الكريم، فلما رأى الرسولَ قد شرب، قال قولته المشهورة التي سار بها الركبانُ، وطلعتْ عليها شمسُ الزمان: فشرب رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم، حتى ارْتَوَيْتُ “بضم تاء الفعل ارتويتُ”، لقد شعر أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بالارتواء التام، والراحة الكاملة؛ بحيث لو أخذنا قطرةَ دمٍ لقياس درجة الارتواء في جسد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لوجدناها تَنْضَحُ بالرِّيِّ، والشِّبَعِ من الماء، هكذا وصلُ الإيثارُ، والحبُّ، والطهارةُ، والأخوةُ، والتعاونُ، ولقد كان المهاجريُّ الْمَكِّيُّ ينزل على أخيه الأنصاريِّ المَدَنِيِّ، فيتعجَّل الأنصاريُّ المدنيُّ بقوله لأخيه المهاجري معلنًا بكل صفاءِ نيةٍ، وجلالٍ طويَّة: هذان بَيْتَايَ، تخير أحسنَهما منظرًا لك، فخذه، وعندي زوجتان، انظر إلى أجملِهما شكلًا، وأحسنها هيئةً، أطلقْهَا لك، فإذا انتهَتْ عدتُها، فتزوجها صالحة، مؤمنة، فيردُّ المهاجريُّ المكيُّ بكل عِزَّةٍ، وشَمَمٍ، ورجولةٍ، ونبل: بارك الله لك في بَيْتَيْكَ، وزوجتَيْكَ، ولكنْ دُلَّنِي على السوقِ، فيذهب المهاجريُّ الْمَكِّيُّ يبيع، ويشتري، ويكسب، ويأتي إلى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه أثَرُ صفوة، أو صُفْرة، أيْ شارة جمال وعلامة حُسْنٍ، فيقول له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: مهيم يا عبد الله؟!، أي: يستفسر عن سببِ جمال سِحْنَتِهِ، وجميل ملبسه، وهيئته، فيقول له: تَزَوَّجْتُ يا رسول الله، يقول ذلك من شدة فرحه، وتعب يده، وصدق تجارته، فيرد الرسول الكريم قائلًا: أولمْ، ولو بشاة).

نعم، إنه لا يُكَافَأ الإيثارُ إلا بالنُّبْلِ، والتوقير، والشكر، والتقدير، ولا يستغلُّ الأخُ المؤمن أخاه، ويأخذ تعبَه من غير حِلٍّ له، رغم أنه حلال لرضاه، وسموه أخوته.

هكذا رفعهم الإيمانُ بالله، وميلادُ الرسول، وابتعاثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن يكونوا رجالًا مَجَّدَهُمْ التاريخُ، ونضَّر بسيرتهم جبينَه، وأحداثه، وأيَّامه، ولياليه: أنَّ أناسًا فاقُوا الملائكةَ طهرًا، وعفافًا، ونبلًا، وإيثارًا، وأخوة، وطهارةً، وارتقوا إلى مَصَافِي الملأ الأعلى بفضل الله أولًا، ثم بميلاد الرسول القدوة، والنبي الأسوة، الذي علَّمهم معنى الإنسانية، وحقيقة الأخوة، وكمال الإيثار، ونُبْلَ الأبرار.

كان الميلاد الكريم، والبعثة المكرمة من أَجَلِّ النعم، وأكبر المِنَنِ من الله على عباده المؤمنين، وتغيَّرت الأرض كلها بعد مولده، وإبَّانَ بعثته، وأمسى الإنسانُ يحب الحياة، وصار ينهض لمهمته، ويدركُ معنى رسالته، وكمال وظيفته، فكان الإنسان كاملَ الإنسانية بمولد سيد الإنسانية، وقمةِ قممِ الرُّوحَانية، وإمامِ الأخلاق الصفية، والتعاملات النقية، وسيد الأتقياء، وقدوة الأصفياء، وفي الآية الكريم من سورة الجمعة، وهي قوله تعالى:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، يمتنُّ الله فيها كذلك على العرب بميلاد الرسول، وبعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإرساله رسولَه الكريمَ إليهم لمهمة سامية، ورسالة عالية، خلاصتُها أنه يتلو عليهم آياتِ كتابِه، ويعلِّمهم الكتابَ الكريمَ، ومعه السُّنَّةُ المكرَّمة، وهي عين الحكمة، بعد أن كانوا ضُلَّالًا، وجُهَّالًا عابدين للأوثان، ساجدين للأصنام، لا يعرفون ربًّا، ولا يُحسنون طاعةً، ولا يُؤَدُّون لربهم عبادة، ولا يعرفون لأنفسهم قدرًا، ولا يقيمون لها مكانةً، ولا لهم مقامٌ، ولا منزلةٌ عند الخلق؛ لسقوطهم من عين الله.

د.جمال عبدالعزيز أحمد 

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]