أيها الأحباب.. وقد جاء التصريح منه (عليه الصلاة والسلام) بالاحتفال بمولده فـ(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ؟ فَقَالَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ- أَوْ مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ، وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: لَيْتَ أَنَّ اللهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ، وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَام ـ قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ - أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ، قَالَ: فَقَالَ: صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ، صَوْمُ الدَّهْرِ، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ)، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ قَالَ:(وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؟ فَسَكَتْنَا عَنْ ذِكْرِ الْخَمِيسِ لَمَّا نُرَاهُ وَهْمًا) (صحيح مسلم، ج2، ص: 819).
فحقّ لنا بهذا الحديث الذي ربط بين يوم الإثنين والمولد النبوي، ألا يُعدّ دليلاً على مشروعية الاحتفاء الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ومن التلميح بمولده الشريف في القرآن العظيم، وتتجلى دلالات المولد النبوي في التفسير والتأويل لهذه الآية الكريمة، يقول الطبري:(قول تعالى ذكره معدّداً على نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعمه عنده، ومذكِّره آلاءه قِبَله: ألم يجدك يا محمد ربك يتيمًا، فآوى، يقول: فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنزلا تنزله ، ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم) (تفسير الطبري (ج24، ص: 487)، إذن فالإمام الطبري وهو أقدم مفسر في تاريخ المفسرين يرى أن آيات سورة الضحى تشير إلى مراحل حياة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم)، بدءًا من اليتم وحتى النبوة، مما يجعلها مرجعًا في فهم عظمة ومكانة المولد النبوي الشريف عند الله وعند الناس، وها هو الإمام القرطبي يربط بين الآيات التي تتحدث عن نشأته (صلى الله عليه وسلم) وبين المقاصد التربوية، مثل الرحمة، والعدل، والعطف على اليتيم ببركة مولده (صلى الله عليه وسلم)، وكأنه يقول إذا كان مولده رحمة للعالمين فإنه على لليتيم رحمة خاصة، وبه تسود الرحمة ويعم العدل وينتشر العطف بين المجتمع المسلم، فيقول:(عدد سبحانه مننه على نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ألم يجدك يتيما لا أب لك، قد مات أبوك. فآوى أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أبويه؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد: هو من قول العرب: درة يتيمة، إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية: ألم يجدك واحدًا في شرفك لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك) (تفسير القرطبي ج20، ص: 96)، وهاو ابن عاشور يقول:(هُوَ وَعْدٌ جَارٍ عَلَى سَنَنِ مَا سَبَقَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِكَ مِنْ مَبْدَأِ نَشْأَتِكَ وَلُطْفِهِ فِي الشَّدَائِدِ بِاطِّرَادٍ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الصُّدَفِ لِأَنَّ شَأْنَ الصُّدَفِ أَنْ لَا تَتَكَرَّرَ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى، والْمَقْصُودِ امْتِنَانٌ عَلَى النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَقْوِيَةٌ لِاطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَالْيَتِيمُ: الصَّبِيُّ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَقَدْ كَانَ أَبُو النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تُوُفِّيَ وَهُوَ جَنِينٌ أَوْ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ مِنْ وِلَادَتِهِ، فَالْمَعْنَى أَنْشَأَكَ عَلَى كَمَالِ الْإِدْرَاكِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَكُنْتَ عَلَى تَرْبِيَةٍ كَامِلَةٍ مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْأَيْتَام أَن ينشأوا عَلَى نَقَائِصَ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يُعْنَى بِتَهْذِيبِهِمْ وَتَعَهُّدِ أَحْوَالِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: “أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي”، فَكَانَ تَكْوِينُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ عَلَى الْكَمَالِ خَيْرًا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْشَأَ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ إِعْدَادِهِ لِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ فِي الْإِبَّانِ، أَلْهَمَهُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الشِّرْكِ خَطَأٌ وَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ طَلَبَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ لِيَتَهَيَّأَ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فالآيات تصف حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بداية حياته، مثل: “ألم يجدك يتيمًا”، هي إشارات إلى أن الله اختار النبي من بين الناس، وهي دلالة على أهمية مولده في سياق الاصطفاء الإلهي) (التحرير والتنوير، ج30/ ص400).. وللحديث بقية.
محمود عدلي الشريف