الثلاثاء 26 أغسطس 2025 م - 3 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : ماذا يريد سوق العمل من التعليم؟

في العمق : ماذا يريد سوق العمل من التعليم؟
الاثنين - 25 أغسطس 2025 01:11 م

د.رجب بن علي العويسي

10

يثير موضوع ربط مخرجات التَّعليم بمتطلبات سُوق العمل تساؤلات عدَّة واستفسارات متنوِّعة تشوبها علامات التعجب والاستغراب والإنكار تارة والقناعة بأنَّ ما أنجز على المستوى المؤسَّسي هو الحدُّ المقبول، وأنَّ ما يتمُّ في هذا الموضوع من ممارسة كافٍ تارة أخرى، في ظلِّ عمل ما زال لم يتحول من مرحلة الاجتهاد الفردي المؤسَّسي، وفي هذا الإطار تظهر على السطح مجموعة من النقاط الَّتي يفترض أن تكُونَ بمثابة المدخل عِندَ التطرق لموضوع المواءمة والإجابة عن التساؤلات الَّتي طالما تتكرر على ألسنة القائمين على مؤسَّسات التَّعليم أو حتَّى توصيات البحوث والدراسات والَّتي لم تستطع إلى اللحظة إيجاد معالجة متوازنة واقعيَّة مستدامة في الخروج من أزمة عدم المواءمة والوصول إلى مرحلة المواءمة المنشودة، فما الَّذي يريده القِطاع الخاص من التَّعليم؟ وهل لدى القِطاع الخاص منظومة كفايات محدَّدة يطلب من التَّعليم العمل بها؟ هل توجد رؤية واضحة وموحَّدة بالقِطاع الخاص حَوْلَ ما يريده من التَّعليم؟ هل دَوْر مؤسَّسات التَّعليم إعداد متعلم جاهز وذي قالب واحد محدَّد يُلبِّي كُلَّ طموحات ومؤسَّسات القِطاع الخاص؟ هذا في مقابل الأسئلة الَّتي تتردد على ألسنة القائمين على القِطاع الخاص بأنَّ مخرجات التَّعليم غير قادرة على تلبية طموحات القِطاع الخاص وتتَّسم بالجمود وعدم القدرة على التَّفاعل مع مستجدَّاته.

وعلى ما يبدو بأنَّ هذه الأسئلة وغيرها تتكرر وتُعاد صياغتها بأساليب مختلفة، لكنَّها تتمحور حَوْلَ فكرة واحدة تشير بوضوح إلى أنَّ الجميع يفتقدون إلى مؤشِّرات دقيقة واضحة في رصد فعل المواءمة، وفي فَهْم متطلباتها، وفي قياس نواتج تحققها من عدمه والسَّبب في ذلك يكمن في أنَّ القراءات كُلَّها إنَّما تعطي مؤشِّرات تقريبيَّة، وليست احتياجات دقيقة مشفوعة بالأرقام والإحصاءات، هذه النقاشات والمجادلات والمزايدات والمغالطات ـ إن صحَّ التعبير تسميتها ـ عِندَما تقتصر على مجرَّد اتباع سياسة الكيل بمكيالين ولم يكُنْ همُّها إيجاد مخرج من الأزمة أو الوصول إلى رؤية مشتركة تجمع جميع الأطراف ذات العلاقة على طاولة واحدة يتداول فيها الحديث عن كُلِّ حيثيَّات الموضوع للوصول إلى حلول أو بريق أمل يخرج الموضوع إلى حيِّز الفعل الوطني المشترك المستفيد من كُلِّ الفرص المتاحة والدَّعم الحكومي المُعزَّز بالإرادة السَّامية لمولانا جلالة السُّلطان المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في أهميَّة تقديم معالجة شاملة نوعيَّة للموضوع تراعي جميع المتغيرات وتستشرف مستقبل الوطن؛ كونه من أولويَّات المرحلة والَّتي تستشرفها من خلال مراجعة سياسات التَّعليم وخططه وبرامجه وتطويرها بما يواكب المتغيرات ويُلبِّي احتياجات سُوق العمل من مخرجات التَّعليم.

إنَّ الوصول إلى تحقيق الرُّؤية الطموحة من عمليَّة المواءمة تتطلب نوعيَّة جديدة من المعالجة تؤكِّد قَبل كُلِّ شيء على أهميَّة قناعة الجميع بأنَّ ما يتمُّ تقديمه حاليًّا في هذا المجال إنَّما يأتي كاجتهادات تَقُوم بها المؤسَّسات في إطار رؤيتها لمسؤوليَّتها الوطنيَّة، وبالتَّالي قد تفتقد أو تبتعد عن الممارسة الحقيقة للمواءمة، وفي الوقت نفسه أن يدرك الجميع الحاجة إلى فعل مشترك يؤطّر ضِمن استراتيجيَّة وطنيَّة ترسم الطريق للمواءمة وتؤصّل لدى المؤسَّسات الثلاث (التَّعليم المدرسي والتَّعليم العالي، وسُوق العمل ـ القِطاع الخاص) أهميَّة العمل من أجل تحقيق المواءمة.. هذا بلا شك يدعونا قَبل الدخول في خضم نقاشات هذا الموضوع أن نعي الطبيعة المتغيرة الَّتي يتمُّ تناول العمل في ظلِّها، فهي بمثابة محاور يستند إِلَيْها في أيِّ مناقشة لموضوع المواءمة، وبالتَّالي فإنَّ فهمنا لها هو دليل قناعتنا بما يُمكِن أن ينتج عن هذه المناقشات والتساؤلات من جهد وطني مشترك، وتتمثل في الآتي:

• الطبيعة المتغيرة لسُوق العمل واتسامه بالديناميكيَّة وسرعة التَّحوُّل فما هو مقبول من تخصُّصات اليوم قد لا تكُونُ له تلك الأهميَّة في سنوات قليلة قادمة.

• التَّحوُّل النَّوعي في طبيعة المهارات المطلوبة (النَّاعمة والتقنيَّة) بما يتواكب مع مهارات سُوق العمل العالميَّة.

• وجود تغيير مستمر في احتياجات سُوق العمل بتغيير السياسات والتوجُّهات الوطنيَّة والمؤسَّسيَّة، وبالتَّالي عدم وجود مؤشِّرات واضحة في العمل حَوْلَ السقف من المهارات والنواتج الَّتي تتوافر لدى الخريج في التَّعليم المدرسي خصوصًا.

• السياسة العامَّة للدولة وما تريده من التَّعليم، والشكل النَّاتج المتوقع مِنْه.

• فلسفة التَّعليم وحدود عملها ومستوى المعالجة المطروحة لمحتواها النظري والفَهْم المتحقق لدى الآخر بشأنها، هذا بالإضافة إلى أنَّ فلسفة التَّعليم في سلطنة عُمان والإطار الفلسفي العام الَّذي بُنيت عَلَيْه يشير بوضوح إلى أنَّ من بَيْنِ غايات التَّعليم هو إكساب المتعلم مهارات العمل وقِيَمه، وليس المراد هنا مهارات تخصصيَّة، بل هي مهارات أساسيَّة مرنة لا تتجاوز طبيعة المرحلة التَّعليميَّة ونوعيَّة التَّعليم والَّذي يؤطّر في حدود مناهجه ومادَّته ومحتواه وطبيعة الطالب في مرحلة التَّعليم المدرسي، وهنا توجَّه الأنظار إلى التَّعليم العالي الَّذي يفترض أنَّه يُعدُّ الطالب لتخصُّصات محدَّدة في القِطاع الخاص أو سُوق العمل.

• التنوع في طبيعة عمل مؤسَّسات وشركات القِطاع الخاص ذاتها.

• نوعيَّة السُّوق المحلِّي ذاته وقدرته على تلمُّس احتياجاته ذاتيًّا.

• مدى قدرة السُّوق المحلِّي على امتلاك خاصيَّة استشراف المستقبل.

• إنَّ سُوق العمل لا يزال غير مستوعب لخريجي بعض التخصُّصات النوعيَّة في مؤسَّسات التَّعليم العالي، والدليل على ذلك أنَّ الكثير من التخصُّصات النوعيَّة الَّتي أدركت مؤسَّسات التَّعليم العالي قِيمتها وأهميَّتها على المستوى الوطني في فترة سابقة مثل: (الأمن السيبراني، وتحليل الأعمال، وهندسة الطاقة، والتقنيَّة الحيويَّة، والهندسة الصناعيَّة، والطاقة المتجدِّدة) وغيرها، إلَّا أنَّ مخرجاتها ما زالت باحثة عن عمل أو لم يستطع سُوق العمل استقبال خريجيها، لذلك انخرطت في سُوق العمل بأعمال ومهام أخرى قد لا ترتبط بتخصُّصهم، لعدم وجود الميدان الحقيقي الَّذي يُمكِن أن تعمل فيه هذه الكفاءات.

• موضوع المواءمة الحاصلة هو أقرب للاجتهاد المؤسَّسي الَّذي يفتقر لوجود مرجعيَّة واضحة في الفلسفة والآليَّة والمدخلات والمخرجات، فلكُلِّ مؤسَّسة اجتهادات في فهمها للموضوع وتقديرها للوضع والإطار الَّذي تعمل فيه لتحقيق المواءمة. وهو ما يجعل في المقابل مؤسَّسات التَّعليم المدرسي والعالي تثق بأنَّ ما تقدِّمه في ظلِّ عدم وجود رؤية واضحة معتمدة من سُوق العمل هو كافٍ ويُحقق الغرض من التَّعليم ويؤكِّد على سلامة النهج الَّذي انتهجته؛ كون مؤسَّسات سُوق العمل لم تحدِّد المهارات الَّتي تريد وهي تختلف من مؤسَّسة لأخرى وفي قِطاعات متنوعة بسُوق العمل الوطني.

• إنَّ فَهْم عمليَّة المواءمة وتحقيق متطلباتها يستدعي النظر في الهُوِيَّة الاقتصاديَّة لسلطنة عُمان وما تريده من التَّعليم، هل تريد أن تكُونَ دولة سياحيَّة أم تجاريَّة؟ أم بيئة أعمال؟ أم صناعيَّة؟ وما نوع الصناعات التحويليَّة؟ هل ثقيلة أم متوسطة؟...إلخ، إذ من شأن هذا المسار أن يضع سياسات التَّعليم في إطار محدَّد، وهو أمر يرتبط برؤية الدولة وسياستها العامَّة وتوجُّهاتها المستقبليَّة.

من هنا تأتي أهميَّة الصورة الشموليَّة المتسعة عِندَ أيِّ معالجة تتناول موضوع مواءمة التَّعليم وسُوق العمل، بحيثُ تضع في أجندتها القدرة على الإجابة عن كُلِّ التساؤلات المطروحة من قِبل كُلِّ الأطراف، مشفوعة بالمعايير والمؤشِّرات والخطط والبرامج والأدلة ونواتج العمل والإحصائيَّات والأرقام والَّتي تضع أطراف العمل الثلاثة (التَّعليم المدرسي، والعالي، وسُوق العمل ـ القِطاع الحكومي والخاص) في مرحلة تحوُّل جديدة تتطلب مِنْها المزيد من التَّنسيق والتَّكامل والتَّفاعل والتَّرابط وإيجاد أدوات قياس محدَّدة وواضحة، ومعايير أداء مقننة وإطار عمل محدَّد في إطار وطني يستشرف مستقبل المواءمة التَّعليميَّة، ويضع مؤسَّسات التَّعليم العالي والتَّعليم المدرسي والقِطاع الخاص الَّذي يُمثِّل سُوق العمل أمام مرحلة مهمة تضع في أولويَّاتها مراجعة شاملة لكُلِّ السياسات والخطط والبرامج، ليست فقط على مستوى مؤسَّسات التَّعليم، بل أيضًا على مستوى منظومة القِطاع الخاص بالسَّلطنة لِيصلَ إلى مرحلة تتأكد فيها ثقة المواطن العُماني بما يُمكِن أن يؤديَه القِطاع الخاص من دَوْر من أجل الإنسان، وثقة الحكومة بقدرة القِطاع الخاص على الوفاء بتعهداته والالتزام بمسؤوليَّاته الَّتي تطلبها التَّنمية المستدامة باعتباره الشَّريك للحكومة في صناعة وتحقيق التَّحوُّل الشَّامل.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]