الاثنين 25 أغسطس 2025 م - 2 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

التيزاب .. خطر فـي بيوتنا!

التيزاب .. خطر فـي بيوتنا!
الاثنين - 25 أغسطس 2025 01:10 م

د. يوسف بن علي الملَّا

10

كثيرًا ما يسمع البعض منَّا بالحروق الحمضيَّة، والمعروفة في بعض الدول بحروق التيزاب! فكلمة «تيزاب» هنا هي كلمة فارسيَّة الأصل، وتعني الماء القاطع. أمَّا علميًّا فهو معروف بحمض النيتريك والَّذي بشكلٍ أو بآخر يُعَدُّ حمضًا شديد التآكليَّة وسامًّا. مع ذلك، ما زال الكثير من الأفراد يستخدمونه، بل وما زال متداولًا في أسواقنا. وهنا قد تبدو تلك الحروق في البداية حادثًا منزليًّا بسيطًا، لكنَّها في الحقيقة قد تغيِّر مسار حياة بأكملها. تخيَّل معي أبًا في مطبخه يسكب حمضًا في مجرى أحَد تلك المجاري المسدودة لاستعادة تدفُّق المياه. وهنا ـ وللأسف ـ تتناثر بضع قطرات على يد طفله الواقف بالقرب مِنْه، أو تتصاعد الأبخرة في عَيْنَي أُمٍّ تراقبه. في لحظة، ما بدأ كتنظيف يصبح مأساة وأحيانًا كارثة على الأُسرة!

ولكَيْ أكُونَ دقيقًا، وبخلاف حروق اللَّهب، لا يتوقف الحمض بمجرَّد انطفاء النَّار. بل على العكس فهو يتسرب بهدوء إلى الأنسجة، مذيبًا البروتينات ومسبِّبًا ما يُطلق عَلَيْه نخر التخثر: وهو موت الخلايا العميق تحت ما يبدو سطحًا متصلبًا أو مسودًّا! ولعلِّي أقول هنا وفي تلك اللحظة يوهم هذا المظهر المخادع الضحايا بأنَّ الإصابة طفيفة. وعِندَما يدركون الحقيقة، يكُونُ الضَّرر قدِ انتشر بشكلٍ أعمق تحت الجلد. ورُبَّما يزداد الخطر عِندَما يلامس الحمض العَيْنَيْنِ، خصوصًا وأنَّ قطرات قليلة مِنْه قد تنتهي بفقدان البصر في ثوانٍ!

بطبيعة الحال عِندَما نتابع بعض الدراسات والحوادث المرتبطة بـ(التيزاب)، في دول مثل إيران والهند وباكستان، حيثُ تستخدم الأحماض القويَّة، مثل حمض الكبريتيك (تيزاب)، في المنازل وأماكن العمل، تذكَّر أنَّ تلك الحروق الكيميائيَّة تمثِّل حوالي اثنين بالمئة من إجمالي إصابات الحروق. ومع ذلك، أجد نفسي أذكّر هنا أنَّه بالرغم من صغر النسبة إلَّا أنَّ عواقبها وخيمة بشكلٍ غير متناسب. وأقصد هنا معدَّلات الإعاقة، وندوب دائمة، ووفَيَات قد تصل إلى ثلاثين بالمئة في الحالات الشديدة. واللافت للنظر أنَّ مُعْظم الحوادث تلك والَّتي ذكرتها تلك الدراسات أنَّها لا تقع في المصانع أو المختبرات، بل في المنازل العاديَّة. أكثر من نصف الحالات المبلَّغ عَنْها ناتجة عن الاستخدام المنزلي غير الآمن، سكب الأحماض في الأحواض أو المراحيض أو المصارف، أو تخزين الزجاجات في أماكن يسهل على الأطفال الوصول إِلَيْها.... وللأسف هذا باتَ شائعًا كثيرًا بَيْنَ مُجتمعنا!

وعَلَيْه، فالإسعافات الأوَّليَّة باتتْ عاملًا مُهمًّا في هكذا حالات، كيف لا؟ وهي تُحدِث فَرقًا واضحًا بَيْنَ الشفاء أو الإعاقة؟ لذلك دائمًا ما نذكِّر بأهميَّة الماء هنا، والآليَّة هي شطف المنطقة المصابة بالماء الجاري لِمُدَّة عشرين دقيقة على الأقل من الحمض. من ناحية أخرى، صحيح قد يحتاج ذلك المريض إلى التنظيف الجراحي وأحيانًا أخرى رقعة جراحيَّة، لكن يَجِبُ أن نعي بأنَّ العلاج لا يقتصر على الجانب الجسدي فقط في هذه الحالات. فالشخص الَّذي يُصاب بحروق حمضيَّة، وخصوصًا في الوجه أو اليدين سيواجه ـ بلا شك ـ صدمة نفسيَّة قد تكُونُ أشدَّ وطأة من الجرح الجسدي، لذا تُعَدُّ الرعاية النفسيَّة أهم مراحل العلاج هنا!

ولكَيْ نكُونَ واقعيِّين، يَجِبُ أن ندرك بأنَّ المُشْكلة الحقيقيَّة تكمن ليس فقط في الطبيعة المدمِّرة للأحماض، بل أيضًا في سهولة الحصول عَلَيْها. ولعلِّي من خلال هذه الصحيفة الغرَّاء (الوطن العُمانيَّة) أحثُّ وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، وهيئة البيئة، وهيئة حماية المستهلك على تقييد استخدام هذه الأحماض في التطبيقات الصناعيَّة فقط، وأن يوقفَ بيعها في المحالِّ الاستهلاكيَّة، بل وأن تَقُوم الهيئات المعنيَّة بإصدار الإرشادات الَّتي تحثُّ أبناء المُجتمع باستبدال الأحماض ببدائل أكثر أمانًا لتنظيف المصارف والأنابيب.

ختامًا، عِندَما ننظر إلى حرق حمضي لا يقتصر صدقًا على رؤية بقعة سوداء على الجلد، بل هو قصَّة أحلام محطَّمة وعبء ألَمٍ ثقيل. لذا، فإنَّ مسؤوليَّتنا كأولياء أُمور ومُعلِّمين وأفراد مُجتمع نشر الوعي، والمطالبة بإيقاف هكذا سلع وتوفير البدائل. ففي النهاية، كُلُّ وعي واضح وصادق يُمكِن أن يُحدِث الفَرق بَيْنَ حياة طيِّبة وأخرى تحمل ندوبًا دائمة!

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]