الثلاثاء 26 أغسطس 2025 م - 3 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

شهادة وفاة للمنظومة الأممية وصراع وجود يتجدد

شهادة وفاة للمنظومة الأممية وصراع وجود يتجدد
الاثنين - 25 أغسطس 2025 01:01 م

إبراهيم بدوي

10

يَجِبُ ألَّا ننظر إلى إعلان الأُمم المتحدة عن دخول غزَّة مرحلة المجاعة كخطوة تصعيديَّة، أو كإدانة للكيان الصهيوني، وإنَّما كإعلان لانهيار المنظومة الأُمميَّة، ودعوة لتأبين مؤسَّسة عاجزة فاشلة، ظلَّت لشهور طويلة تتابع مجازر الاحتلال بلا قدرة على الردع، لن يرضيني أن تعلن اليوم عن المجاعة، ولن أطرب للبيانات الَّتي تصدر عن منظَّماتها؛ لأنَّها تعجز حتَّى عن مخاطبة دولة الاحتلال بوضوح، فضلًا عن محاسبتها. فتلك البيانات لم ترتقِ حتَّى لُغويًّا إلى مستوى إلصاق الجرم المشهود بالكيان الصهيوني، فقدِ اكتفى الأمين العام بالقول إنَّها (كارثة من صنع البشر وفشل للضمير الإنساني)، بَيْنَما تحدَّث مكتب الشؤون الإنسانيَّة عن (عرقلة منهجيَّة ولا مبالاة وتأخير)، وهي عبارات توحي بأنَّ الجريمة حدثت في فراغ، وكأنَّ المعابر لم تغلق بقرار عسكري متعمد، هذه اللُّغة الجامدة تخفي القاتل بدل أن تكشفه، وتحوِّل الدم المسفوك إلى (مأساة إنسانيَّة) لا أكثر.

ورغم أنَّني لستُ خبيرًا في القانون الدولي، ولا أدَّعي ذلك، إلَّا أنَّني مؤمن أنَّ هناك طريقًا آخر لوقف القتل ومحاسبة القاتل، غير ذاك الَّذي يمرُّ عَبْرَ مجلس الأمن الَّذي صار رهينة دائمة للفيتو الأميركي، هذا المجلس أصبح غرفة مغلقة يتحكم فيها مقعد واحد يقرِّر مَن يعيش ومَن يموت. وإذا كان من الصعب اليوم فرض المحاسبة الشاملة، فإنَّ الحدَّ الأدنى الممكن هو فرض إدخال المساعدات، عَبْرَ آليَّات بديلة، هنا يكتسب اقتراح الرئيس الأيرلندي مايكل هيجينز أهميَّة خاصَّة، حين دعا إلى تفعيل الفصل السابع من ميثاق الأُمم المتحدة لتشكيل قوَّة دوليَّة تَضْمن وصول المساعدات الإنسانيَّة إلى غزَّة، حتَّى لو عارض مجلس الأمن بفيتوه الشهير، مثل هذا الاقتراح يثبت أنَّ البدائل موجودة، وأنَّ القوانين الَّتي صيغت بعد الحرب العالميَّة الثَّانية لم تكُنْ عاجزة، وإنَّما أُفرغت من مضمونها بغياب الإرادة السياسيَّة. أمَّا الاكتفاء ببيانات الشجب والتحذير، فهو يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول أن نملك الجرأة لتفعيل الآليَّات القادرة على فرض الحق، والثاني غلق هذه المنظومة الأُمميَّة ونعلن بوضوح أنَّنا نعيش في زمن تحكمه شريعة الغاب.

الصَّمت الدولي والعجز المفضوح، بل والتواطؤ، هو مشاركة فعليَّة في هذه الجريمة البشعة، فهناك أكثر من (62) ألف شهيد في غزَّة منذُ السابع من أكتوبر، معظمهم من الأطفال والنساء، وأكثر من (157) ألف مُصاب، إلى جانب (289) حالة وفاة بسبب المجاعة، بَيْنَهم (115) طفلًا. وفي الضفَّة الغربيَّة رصدت تقارير الأُمم المتحدة استشهاد أكثر من (670) فلسطينيًّا منذُ بداية العام الماضي، بَيْنَهم (129) طفلًا، إلى جانب إصابة أكثر من خمسة آلاف، وتشريد عشرات الآلاف نتيجة اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال، هذه الأرقام تقرأ كدليل حي على جريمة إبادة تُرتكب أمام أعيُن العالم، والصَّمت على هذه الوقائع يوازي الصَّمت الَّذي أحاط بإبادة الهنود الحمر، حين ترك شَعب كامل لمصيره، واليوم يعاد المشهد، مع فارق أنَّ كُلَّ شيء موثَّق بالصوت والصورة، وتحت أنظار المؤسَّسات الدوليَّة. أمَّا العجز العربي فهو وجْه آخر للكارثة؛ لأنَّه لم يدرك بعد أنَّ فلسطين قضيَّة مركزيَّة، وأنَّ مقاوَمة أهلها هي السَّد الوحيد أمام مشروع التوسع الصهيوني، فقد أعلن نتنياهو بوقاحة عن حلم الدولة الكبرى الممتدة من النِّيل إلى الفرات، وتبعه وزراء حكومته بتصريحات إرهابيَّة تكشف نيَّات التهجير والضَّم، وهنا يتأكد أنَّ صمود أبناء فلسطين وذودهم عن حقوقهم يُمثِّل حماية للأُمَّة كُلِّها؛ لأنَّ تركهم وحدهم يعني أنَّ ثمن الصَّمت والعجز سيدفعه الجميع، وأنَّ أبواب عواصمنا ستفتح ذات يوم أمام أطماع هذا الكيان كما فُتحت غزَّة أمام مجازره. لقد صارت الحاجة ماسَّة إلى تغيير شامل وكامل في طريقة التَّعامل مع القضيَّة الفلسطينيَّة ومع المشروع الصهيوني؛ لأنَّ تصريحات نتنياهو أعادت الصراع إلى مربَّعه الأوَّل: «صراع وجود لا صراع حدود»، فما يقوله الرجل بوقاحة، ويتبعه وزراؤه بتصريحات أكثر دمويَّة، يؤكِّد أنَّ الهدف النهائي ليس غزَّة والضفَّة وحدهما، وإنَّما الأُمَّة كُلُّها، لهذا علينا أن نعي جيِّدًا ما نفعله اليوم، وأن ندرك أنَّ الثَّمن سيدفعه الجميع، وعلى العالم، ممثلًا في هيئاته ومؤسَّساته، أن يفهم أنَّ الصَّمت أمام هذه الجريمة يدمِّر ما تبقَّى من المنظومة الأُمميَّة، وأنَّ التواطؤ يفتح الباب واسعًا أمام مزيدٍ من الدول المارقة الَّتي ستتعلم أنَّ معادلة القوَّة وحدها هي الحامي والضامن، حتَّى على المستوى الفردي، فإنَّ حقوق أبنائنا في مستقبل مشرق مرهونة بموقف حاسم ضدَّ هذا الكيان الإرهابي. وإلَّا فسوف نجد أنفسنا بعد سنوات قليلة أمام البث المباشر ذاته، يُعاد في القاهرة أو دمشق أو بغداد، عِندَما يبدأ هذا الكيان الدموي في تنفيذ مرحلته الثَّانية من مشروعه الاستعماري التوسعي، هل نترك أبناء فلسطين يواجهون وحدهم، ثم ننتظر دَوْرنا في الطابور؟ أم نمتلك شجاعة القرار ونوقف الجريمة قبل أن تبتلعنا جميعًا؟

إبراهيم بدوي

[email protected]