لم تكُنِ العلاقة بَيْنَ العراق والولايات المتحدة في أسوأ حالاتها مثلما تشهدها هذه الأيَّام، الَّتي تزامنت مع تصاعد الانقسام السياسي بَيْنَ معسكرين؛ الأوَّل يدعو لبقاء القوَّات الأميركيَّة في العراق، فيما يدعو الثاني إلى الانسحاب من العراق. ففي مشهد يعكس مدى حساسيَّة التَّعاطي مع الوجود الأميركي وتحوُّله إلى قضيَّة تقاطعتْ فيها الحسابات السياسيَّة مع التحدِّيات الأمنيَّة، يصف أحَد المعسكريْنِ الانسحاب المرتقب للتحالف الدولي بأنَّه يُمثِّل «إنجازًا وطنيًّا» ودليلًا على قدرة القوَّات العراقيَّة في التصدِّي للتحدِّيات منفردة، فيما يُعَبِّر المعسكر الآخر عن قلقه من تداعيات هذه الخطوة على الاستقرار الداخلي والإقليمي. هذا التباين والانقسام السياسي حَوْلَ الوجود الأميركي يكشف ضبابيَّة وغموض والتباس مستقبل العلاقة بَيْنَ واشنطن وبغداد. والسؤال المتداول حَوْلَ مستقبل الشَّراكة مع واشنطن: هل هي نهاية مرحلة قتاليَّة؟ أم بداية لمرحلة جديدة أكثر غموضًا؟ وتكمن في الإجابة على خطورة الانقسام السياسي حَوْلَ موجبات الرحيل مخاوف حقيقيَّة في ظلِّ عدم وجود استقرار أمني في عموم المنطقة. فهذا الانسحاب رُبَّما يدفع نَحْوَ زعزعة الأوضاع الأمنيَّة الداخليَّة، فهناك مخاطر قريبة من العراق، خصوصًا في الداخل السُّوري واللبناني. إنَّ التَّحوُّل نَحْوَ الجانب المَدَني لا يعني انتهاء دَوْر التحالف الدولي في العراق بالكامل، بل إعادة تعريف هذا الدَّوْر وتعديل مهامه تحت مظلَّة استشاريَّة أو تدريبيَّة، بحيثُ لا تشارك في عمليَّات قتاليَّة مباشرة، بل تركِّز على بناء وتطوير قدرات القوَّات العراقيَّة. ولدى الولايات المتحدة نَحْوُ (2500) جندي في العراق، إضافةً إلى (900) في سوريا المجاورة، وذلك في إطار التحالف الَّذي تشكَّل في 2014 لمحاربة تنظيم «داعش» بعد اجتياحه مساحات شاسعة في البلديْنِ قَبل طرده من مُعْظم تلك المناطق قَبل سنوات. وكشف متحدِّث باِسْمِ السفارة الأميركيَّة في بغداد عن قرب توقيع شراكة «مدنيَّة» بَيْنَ التحالف الدولي والعراق، سينتقل من مهامه العسكريَّة في العراق إلى شراكة أمنيَّة ثنائيَّة أكثر تقليديَّة، وبقيادة مَدنيَّة على المستوى العالمي. وكشفت مصادر إعلاميَّة عن أنَّ الإدارة الأميركيَّة أخطرتِ الحكومة العراقيَّة بقرب بدء سحبِ المئات من الجنود والعسكريِّين الأميركيِّين من قاعدة عين الأسد بمحافظة الأنبار غرب العراق، لأسباب تتعلق بالاتفاق العراقي الأميركي المتضمن انسحابًا تدريجيًّا للقوَّات الأميركيَّة العاملة تحت غطاء التحالف الدولي للحرب على تنظيم «داعش» منذُ العام 2014. وتقع القاعدة على بُعد (200) كيلومتر غرب بغداد، وقرب نهر الفرات في بلدة البغدادي غرب محافظة الأنبار، وتُعَدُّ أضخم القواعد الأميركيَّة في العراق. وتُمثِّل قاعدة عين الأسد في الوقت الحالي مرتكزًا للمئات من الجنود والعسكريِّين الأميركيِّين. وتتشارك القاعدة، إلى جانب القوَّات الأميركيَّة، الفِرقة السابعة بالجيش العراقي، ضِمن قيادة عمليَّات البادية والجزيرة، المسؤولة عن حدود العراق مع الأردن وسوريا وأجزاء من الحدود مع السعوديَّة. إنَّ «انسحاب قوَّات التحالف الدولي من العراق هو واحد من إنجازات الحكومة ومؤشِّر على قدرة العراق على التصدِّي للإرهاب وحفظ الأمن والاستقرار ـ على حدِّ قول مسؤول عراقي ـ من دُونِ الحاجة إلى مساعدة آخرين». بِدَوْره، توقَّع الخبير الأمني والاستراتيجي سيف رعد أنَّ انسحاب القوَّات الأميركيَّة حاليًّا من العراق قَبل الموعد المقرر يُنذر بحدوث شيء ما؛ لأنَّ «المرحلة الأُولى من انسحاب القوَّات الأميركيَّة من العراق تتضمن إخلاء الدَّعم اللوجستي من قاعدة عين الأسد». واستنادًا إلى المواقف المتباينة حَوْلَ الشَّراكة مع واشنطن ومستقبل وجود قوَّاتها بالعراق، يبقَى الخِطاب الحكومي المتفائل وتصريحات قوى وازنة في المشهد السياسي، ترى غير ذلك الأمر الَّذي يبقى مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي موضع شكٍّ وتساؤل ومُعلَّقًا أمام معادلة ملتبسة ومعقَّدة بَيْنَ بغداد وواشنطن، وما هو السبيل لإخراج العراق من خانق يحاول الفكاك مِنْه للحفاظ على سيادته الوطنيَّة، ويغلق باب التدخلات الخارجيَّة وإملاءاتها الَّتي تتقاطع مع موجبات الأمن الوطني والقومي.
أحمد صبري
كاتب عراقي