الثلاثاء 26 أغسطس 2025 م - 3 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

ألسُن وحكايات : السركار ...التاريخ فـي علبة روائية جميلة

ألسُن وحكايات : السركار ...التاريخ فـي علبة روائية جميلة
الأحد - 24 أغسطس 2025 01:09 م

ناصر المنجي

80

(يدهشني هذا الشاب المثابر، الابن، طارق المنذري، فإصداره اللاحق على سابقه يتطور بسرعة مذهلة، في سعة ثقافته ومصادره، وسرده الروائي الشائق الأنيق التي تسبر وتعالج وتربط الحاضر بالماضي، فأعماله المتتابعة تؤسس لمشروعٍ رائد بأحداثه وشخصياته وتشابكاته ودروسه في قالبٍ سردي محكم متماسك وممتع)، بهذه الكلمات غرَّد الكاتب والباحث سعود الحارثي عن الكاتب طارق المنذري وعمله الروائي الأخير (السركار) عبر منصة (x)، بسيطةٍ صادقة هذه الكلمات ولكنها معبِّرة كل التعبير ليس عن رواية السركار فحسب، بل عن الثلاثية الروائية لطارق المنذري التي ننتظر رابعها.

في هذه الرواية تتقاطع الأزمنة والأمكنة، بين قصورٍ مشيّدة كأنها الجنان وليس ببعيدٍ عنها أكواخٍ وبيوت كأنها القبور، بين سلطانٍ يحلم بأن يحكم لا أن يُحكم، بين سقّاء ماء لا يُعرف ولا يعرف له أبًا أو أُم، كلّ ما يعرف في هذا العالم قربة ماء وأسئلة يغلي بها مرجل قلبه، أحلام تُزهر وتحلم بالحُرية لتأتي أضغاث أحلام تجز رقابها، بين أطماعٍ خارجية، وتأجيج الحروب بينه وبين القبائل وعلماء الدين في تلك الفترة، عن مسقط جوهرة الشرق في تلك الفترة، المدينة الكوزموبولياتانية حيث ميناؤها تتوقف فيه السفن العابرة بين الخليج وآسيا وإفريقيا، مدينة متعددة المشارب والأجناس، تجد قنصلية الولايات المتحدة الأميركية والقنصلية البريطانية وهما لا توجدان في الخليج العربي إلا في مسقط نتيجة أهمية مسقط الاستراتيجية، فيها تموت أحلام وتولد أحلام أخرى، أحلام تُخلق وتُبعث فيما قتلُها ووأدها حياة للمستعمر، بين قس مُبشِّر للمسيحية يريد إقتلاع الإيمان بالدين الإسلامي من قلوب من قال عنهم النبي عليه الصلاة والسلام (طوبى لأهل عمان آمنوا بي ولم يروني) ليُسهِّل للقوى الاستعمارية السيطرة على البلاد وبين أهل العلم والدين المرابطين على دينهم وإيمانهم.

ليُقدّم المنذري أعماله الروائية (مسكد، مطايا الشوق، السركار)، كان عليه أن يتقصى أحداثها من الكتب والمخطوطات، طاف بالأمكنة وسيوحها، مسكد، الدريز، الحوقين، الرستاق، المضيرب وغيرها من البلدات والمدن العمانية، يسبر المنذري أغوار الشخصيات جيدًا المتوزعة بين طبقاتٍ مجتمعية عدة وأجناسٍ مختلفة وأديانٍ ومذاهبٍ شتى، وبأسلوبٍ شائق يجمع بين التاريخي والديني والعاطفي يلعبُ لعبة روائية جميلة بسردٍ رائع. التاريخ العماني مادة روائية ثرية، الدور العماني كان دورًا محوريًّا، وإن لم يكن له من الشهرة الكثير، لكن هذا يلغيه، وما تكالب الإمبراطوريات الاستعمارية وغيرها منذ أقدم الأزمنة إلا لمعرفتهم بأهمية عُمان وإنها هي عُنق العالم العربي والسيطرة عليها هي الأساس للسيطرة على الشرق العربي، مهما تعددت الأطماع، إقتصادية أو عسكرية كانت أو غيرها، ومهما أختلف وتحارب أهل عمان بينهم كبقية الشعوب إلا أن دورها قائمٌ رغم ذلك، من يقرأ رواية السركار وما قبلها سيعرفُ هذا بالتأكيد. لا تخلو الرواية من بعض الإطناب البسيط والذي يقع فيه الكثير من الكُتّاب وليس طارق المنذري استثناءً منهم، لكن المنذري في عمله الروائي هذا قارئ جيد يُشرّح الأوضاع العمانية في تلك الفترة، حيثُ تقطعت، أوصال الوجود العماني في الكثير من الأصقاع نتيجة مؤامرات وتكالب القوى الاستعمارية وأيضًا الحروب القبلية التي عانت منها الروح العمانية طوال التاريخ، وأيضًا الصراع بين القوى الاستعمارية نفسها على عُمان وتأثُرها به، لم يتقمّص المنذري دور المؤرخ في عمله هذا، بل جعل من الأحداث الواقعية والشخوص الحقيقية والحروب في تلك الفترة والتنافس الاستعماري مع بعض الإسقاطات المُهمَّة مادةً في هذا العمل الروائي. دومًا أقول إن سلطنة عمان ولّادة، وهي بالفعل كذلك، مُبارك لنا طارق المنذري، الذي يعيشُ في الظل الجميل حيث يستريح ويكتب بعيدًا عن صخب الشهرة التي يتراكض حولها الكثيرون وما أكثرهم.

ناصر المنجي 

[email protected]