الاثنين 25 أغسطس 2025 م - 2 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : المجاعة فـي غزة.. جريمة على مرأى العالم

الأحد - 24 أغسطس 2025 03:20 م

رأي الوطن

40


يُشكِّل الإعلان الرسمي بوجود المجاعة في غزَّة رسميًّا اعترافًا دوليًّا لا يقبل الشَّك أو التَّأويل، فهذه المجاعة جاءت نتاج حصار طويل المدى تحوُّل مع مرور الوقت إلى سلاح معلن في يد الاحتلال. فإعلان الأُمم المُتَّحدة أنَّ نصف مليون إنسان يواجهون خطر الجوع الكارثي، وأنَّ الملايين الآخرين يعيشون في حصار خانق بلا ماء أو غذاء أو دواء، يكشف أنَّ الحرب تجاوزت ميادين القتال العسكريَّة لتستهدفَ تفاصيل الحياة اليوميَّة، لقد جعل الاحتلال الخبز أداة قهر، والماء وسيلة إذلال، والدواء ورقة مساومة؛ لِيديرَ حربًا باردة في ظاهرها، حارقة في نتائجها، والصور القادمة من القِطاع تنطق بما تعجز عَنْه الكلمات.. فهناك أطفال بوجوه شاحبة ينهارون من سوء التَّغذية، نساء يفتشن عن فتات طعام وسط الركام، وشيوخ يترنَّحون من شدَّة الإعياء، هذا المشهد يعكس جريمة سياسيَّة مكتملة الأركان، تمارس بوعي كامل على مرأى العالم، وتجعل الصَّمت مشاركة مباشرة في القتل البطيء، فهذا الإعلان الأُممي تحوَّل إلى وثيقة إدانة قانونيَّة وأخلاقيَّة، ويُمثِّل برهانًا جديدًا على أنَّ الاحتلال يستخدم الجوع سلاح حرب موازيًا للصواريخ والقنابل.

إنَّ هذا التقرير الأُممي قد أكَّد أنَّ سياسة التجويع جزء من استراتيجيَّة منظَّمة يفرضها الاحتلال لكسر الإرادة الفلسطينيَّة، والفلسطينيون تلقوا هذا الإعلان باعتباره برهانًا لا يَقبل التَّأويل على أنَّ ما يجري في غزَّة جريمة إبادة بطيئة، حيث شددت حركة فتح على أنَّ المُجتمع الدولي أمام خيار حاسم، إمَّا وقف العدوان ورفع الحصار وتأمين تدفق المساعدات، أو المشاركة في الجريمة عَبْرَ الصَّمت والتقاعس. لقد أكَّد الفلسطينيون أنَّهم يرفضون لُغة الشفقة، ويصرون على حقِّهم الطبيعي في الحياة، ويحولون البقاء على الأرض إلى فعل مقاومة يومي، يتجدد مع كُلِّ محاولة لسحقِّهم، فصوَر الأطفال الَّذين يفقدون حياتهم بسبب سُوء التَّغذية أصبحتْ أقوى من أيِّ خِطاب سياسي، وأوضح من أيِّ بيان دبلوماسي، فهي تكشف جوهر المعركة وتضع الاحتلال في موقع الجلاد أمام العالم. والتقرير الأُممي لم يكُنْ مادَّة إعلاميَّة عابرة، إنَّما جرس إنذار سياسي وأخلاقي يفضح عجز المنظومة الدوليَّة، ويؤكِّد أنَّ التجاهل صار مشاركة عمليَّة في إدامة الجريمة.

لقَدِ انعكس الاعتراف الأُممي بقوَّة على السَّاحة العربيَّة الَّتي لم تَعُدْ تملك ترف الانتظار، فغزَّة تمثِّل قلب الأُمَّة، وأي انهيار فيها سينعكس على كُلِّ مدينة عربيَّة؛ لأنَّ معركة التجويع تحمل رسالة تتجاوز حدود القِطاع، ومَن يتصور أنَّ الخطر سيظلُّ محصورًا داخل غزَّة يخطئ القراءة، فالمشروع الاستعماري يختبر حدود الصَّمت العربي، ويقيس مدى استعداده للتوسع، والشُّعوب العربيَّة تدرك أنَّ معركة غزَّة هي معركتها، وأنَّ الصوَر القادمة من هناك تُمثِّلها هي أيضًا.

إنَّ المواقف الرسميَّة الَّتي عبَّرت عن رفض التجويع لها قِيمتها، لكنَّها تفقد وزنها ما لم تتحوَّل إلى قرارات حقيقيَّة تضغط على الاحتلال، سواء كانت سياسات اقتصاديَّة، أو خطوات دبلوماسيَّة، وإجراءات مباشرة تفرض على الجلاد التراجع، عن جرائمه.. فاستمرار الحصار يفتح الباب أمام مشروع توسعي يهدد استقرار المنطقة كُلِّها، لذلك فإنَّ التحرك العربي واجب وجودي لا يحتمل التأجيل؛ لأنَّه يحمي الأمن القومي قَبل أن يحميَ غزَّة، ويُمثِّل دفاعًا عن الذَّات قَبل أنْ يكُونَ تضامنًا مع الآخرين.

أمَّا المُجتمع الدولي فيقف اليوم أمام امتحان حاسم، يكشف مدى جديَّة منظومته القانونيَّة، والأمين العام للأُمم المُتَّحدة دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، ومنظَّمة الصحَّة العالميَّة أوضحت أنَّ أكثر من خمسة عشر ألف مريض بحاجة إلى إجلاء طبي عاجل بَيْنَهم آلاف الأطفال، هذه الأرقام لا تُمثِّل بيانات جامدة، وإنَّما أرواح تنتظر قرارًا سياسيًّا ينقذها من الموت، ومع ذلك يصر الاحتلال على الإنكار، وتستمر القوى الكبرى في المماطلة، ما يبرهن أنَّ القانون الدولي بلا قوَّة ضاغطة لا يحمي جائعًا ولا يردع مُجرِمًا، فإعلان المجاعة يَجِبُ أنْ يكُونَ لحظة فارقة؛ لأنَّ التَّاريخ سيسجل أنَّ القرن الحادي والعشرين شهد جريمة تجويع متعمدة أمام أنظار العالم! فغزَّة لا تطالب بمعجزة، لكن بحقِّها البسيط في الحياة، ومَن يساندها يكتب اسمه في سجل الإنسانيَّة، ومَن يتخلى عَنْها يضع نفسه في خانة المتواطئين. فاللحظة حاسمة: إمَّا إنقاذ غزَّة أو سقوط النظام الدولي كُلِّه في اختبار القِيَم.