شبَّه البعض العدوان الإسرائيلي على غزَّة بالحرب الَّتي شنَّتها أميركا على فيتنام في ستينيَّات القرن الماضي، من حيث عدد الضحايا وحجْم الدَّمار. وأتذكَّر وأنا طفل صغير في بداية السبعينيَّات برنامجًا إذاعيًّا كانت تبثُّه الإذاعة المصريَّة بصوت الفنَّانة القَدْيرة سميحة أيوب عن قصَّة حياة «هو شي منه» الزَّعيم الفيتنامي العظيم، وكيف استطاع هذا الفلَّاح البسيط قيادة الشَّعب الفيتنامي لمقاومة الاستعمار بكافَّة أنواعه، فقَدْ ولد وفيتنام ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر، ورفض تعلُّم الفرنسيَّة لُغة المستعمِر، وجاب البلاد يدعو الفيتناميِّين لمقاومة المحتلِّ، وتكرَّر الأمْرُ في مواجهة الغزو الياباني إبَّان الحرب العالَميَّة الثَّانية. وعِنْدما انسحب الفرنسيون من فيتنام منتصف الخمسينيَّات، تركوها مقسَّمة لشماليَّة موالية للصِّين والاتِّحاد السوفيتي وجنوبيَّة موالية للغرب، ولكن هوشي منه رفضَ التَّقسيم وقاد الكفاح المسلَّح من أجْلِ توحيد فيتنام.
تدخَّلت أميركا لدعم الجنوبيِّين، ومواجهة المدِّ الشيوعي في إطار الحرب الباردة الَّتي اشتعلت حقبة الستينيَّات بَيْنَ «النَّاتو» وحلف وارسو، استمرَّت الحرب عشر سنوات، وراح ضحيَّتها الآلاف من الجانبَيْنِ، واضطرَّت أميركا للانسحاب من مستنقع فيتنام، بسبب ضراوة المقاومة والخسائر الفادحة في الأرواح، ورأي عام داخلي ودولي رافض للحرب، كان مِنْهم بطل الملاكمة الشهير محمد علي كلاي الَّذي رفض التجنيد الإجباري والذَّهاب للحرب في فيتنام.
انتهت الحرب بهزيمة أميركا وانتصار الفيتناميِّين بقيادة «هو شي منه» الَّذي استطاع توحيد البلاد، وتأسيس فيتنام الحديثة في العام 1976م، كانت دَولة فقيرة، مدمَّرة، محاصَرة اقتصاديًّا، ولكنَّ الفيتناميِّين قرَّروا إعادة البناء.
كان (70%) من السكَّان يعملون بزراعة الأرز، وكانت المزارع جماعيَّة استرشادًا بالنِّظام السوفيتي، وحتَّى منتصف الثمانينيَّات كانت فيتنام بها أقلُّ دخل للفرد في العالَم، وأعلى معدَّل للبطالة والتضخُّم، وتعيش على المعونات القليلة الَّتي تأتيها من الاتِّحاد السوفيتي والصِّين.
حتَّى جاء جيل جديد للحُكم منتصف التسعينيَّات أكثر انفتاحًا، أعاد الاعتبار للملكيَّة الخاصَّة، وقرَّر الانفتاح على العالَم والسَّماح للقِطاع الخاصِّ بالعمل ودخول الاستثمارات الأجنبيَّة، والتحوُّل من المركزيَّة إلى اقتصاد السُّوق، وحدَث تقارب مع أميركا والغرب، بعدما قرَّر بيل كلينتون رفع الحصار وإعادة العلاقات الدبلوماسيَّة، واندمجت فيتنام في الاقتصاد العالَمي ونالت عضويَّة منظَّمة التِّجارة العالَميَّة ومجموعة الآسيان.
استفادت فيتنام من الخلافات بَيْنَ أميركا والصِّين، وأصبحت قِبلةً للاستثمارات الأجنبيَّة؛ بسبب وفرة الأيدي العاملة المدرَّبة، وانخفاض الأجور، وتحسُّن البنية الأساسيَّة بمساعدة البنك الدولي وحُسن استخدام المساعدات الدوليَّة.
بحلول عام 2010 كانت أكبر شركات التكنولوجيا؛ مِثل «سامسونج وأنتل وأبل»، وأشْهَر العلامات الرياضيَّة مِثل «نايكي وأديداس»، تنقل مصانعها إلى هانوي من أجْلِ خفض تكاليف التشغيل، الَّتي تصاعدت في الصِّين؛ جرَّاء النُّمو الاقتصادي المتصاعد الَّذي أدَّى لارتفاع الأجور والضرائب والعقارات.
استغلَّت الحكومة الفيتناميَّة جائحة كورونا، والإغلاق التَّام الَّذي رافقها في الصِّين، واستطاعت تحصين شَعبها، واستئناف العمل بمصانعها بأقصى سرعة، كما منحت حزمة من الحوافز للاستثمار الأجنبي، بتخفيض الضرائب وأسعار الكهرباء، واهتمَّت بالتَّعليم، ونجحت في أن تكُونَ المركز الرئيس لصناعة الرقائق الإلكترونيَّة في العالَم، لك أن تعْلَمَ أنَ واحدًا من كُلِّ عشرة هواتف ذكيَّة مصنوع في فيتنام، وأنَّها أكبر مصدِّر لأجهزة الحاسوب على مستوى العالَم، حدَث كُلُّ هذا التطوُّر في أقلَّ من عشرين عامًا.
محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري